صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب: هل يمكن ألّا نفكر أوروبيا وننتج بدائل معرفية خاصة بنا؟

slama
كتب: نوفل سلامة

أي موقع وأي مكانة للفكر غير الأوروبي في سياق النظام العالمي الحالي المهين والذي تقوده الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها من الغربيين؟ وأي موضع للتفكير الآخر القادم من عوالم أخرى غير أوروبية وخاصة عالم الجنوب والصادر عن غير دائرة مركزية المعرفة الأوروبية؟

وهل يمكن في هذا السياق العالمي من الهيمنة الشاملة التي يقودها الغرب ألا نفكر أوروبيا وأن نصنع بأنفسنا بدائلنا المعرفية والمجتمعية تكون أكثر التصاقا ببيئتنا وتعبيرا عن خصوصيتنا وهويتنا وثقافتنا وكل ما يميزنا عن هذا العالم الغربي المهيمن؟
وكيف يمكن أن نفك الارتباط المعرفي والفلسفي بكل ما هو تفكير أوروبي غربي وأن ننتج فكرا ومعرفة حرة مستقلة؟

هاجس قائم

هذا هو الهاجس وهذا هو القلق الذي يحمله كتاب ” هل يستطيع غير الأوروبي التفكير؟ ” للمفكر والناقد والكاتب الإيراني ” حميد دباشي ” وهو مؤلف يأتي في سياق الكتابات التي ظهرت في السنوات الأخيرة تنتقد بشدة الهيمنة الثقافية والفكرية الأوروبية الغربية التي تحاول دوما أن تفرض معاييرها ونظرتها للعالم وقيمها ومنظومة أخلاقها ونمط عيشها على بقية العالم وخاصة على العالم غير الأوروبي…

مراجعات متواصلة

كتاب حميد دباشي جاء في سياق موجة المراجعات للعلاقة مع الغرب وفي سياق مساءلة هذا الغرب في فكره ونوعية العلاقات التي يفرضها على الشعوب ويحكم بها وفي علاقة بالهيمنة الثقافية والمعرفية والسياسية والمالية والاقتصادية للغرب ونقد منظومة الأفكار الاستعمارية والاستشراقية الجديدة التي تسعى إلى تهميش أي دور للشعوب غير الأوروبية، وإسكات الأصوات الأخرى القادمة من العوالم الأخرى وخاصة عالم الجنوب وهو كتاب يندرج في إطار مشروع كبير لتفكيك هيمنة الفكر الغربي على كل فكر آخر غير أوروبي.

سؤال مركزي

السؤال المركزي الذي يناقشه حميد دباشي في هذا المؤلف يدور حول قدرة غير الأوروبي على ألاّ يفكر أوروبيا وقدرة شعوب العوالم الأخرى أن تفكر بشكل حر ومستقل على المعرفة الأوروبية المهيمنة، وبعيدا عن المعايير ومربعات التحرك الغربية وحدود الفكر التي رسمها، حيث يحتكر الغرب اليوم ويسيطر على كيفية فهم العالم وتفسيره مما أدى إلى إقصاء وتهميش وتحييد الآراء الأخرى التي لا تنتمي إلى دائرة الفكر الغربي ومنظومة معاييره التي تهيمن وتقدم نفسها النموذج العالمي الذي يجب اتباعه والاقتداء به تطبيقه.

منطلق النقد الذي يوجهه دباشي إلى منظومة الهيمنة الغربية أن ما نعده فكرا غربيا ومعرفة أوروبية صرفة ليست إنتاجا ولا إبداعا أوروبيا محضا ولا يعود الفضل فيه إلى عقل أبنائه وإنما الكثير من الأفكار والفلسفة والسياسة الغربية لها أصول غير أوروبية، ونشأت وتطورت من خلال التفاعل مع العالم غير الأوروبي وبفعل حركة النقل والترجمة التي حصلت للكثير من المعارف غير الغربية تم جلبها من العالم العربي والإسلامي والهندي والفارسي وغيرها إلى اللغات الأوروبية، وهي حقيقة كثيرا ما يتم طمسها و تجاهلها لصالح سردية تفوق الحضارة الغربية على كل حضارة…

ينبّه حميد دباشي إلى محاولات الهيمنة الجديدة التي يحاول الغرب فرضها على الشعوب ومحاولات إنتاج هيمنة ثقافية جديدة بعد مرحلة تصفية الاستعمار الأوروبي وتوظيف الاستشراق الجديد الأكثر خطورة وتعقيدا باستعمال فكرة الحقوق والحريات وتوظيف منظومة حقوق الإنسان والديمقراطية والعولمة لتحقيق هدف واحد وهو استعادة الهيمنة ومواصلتها وادامتها.

الاستشراق الجديد

يعتبر دباشي أن الاستشراق الجديد يختلف عن القديم الذي تشكل مع حركة الاستعمار في القرن الثامن عشر وما بعده في ظهور ما يسمى بالمثقف الوظيفي المحسوب على العوالم الأخرى غير الأوروبية، ولكنه منخرط في مشروع الهيمنة الغربية والذي يبحث عن قبول أكاديمي وثقافي غربي وعن اعتراف خارج وطنه في المنظومة المعرفة الكونية، يختلف هذا الاستشراق الجديد في كونه حركة من أجل استئناف الهيمنة الفكرية الغربية ولكن بأدوات محلية ودون حاجة إلى مبشرين ولا إلى مستشرقين أجانب.
والسؤال المطروح أمام استئناف حركة الهيمنة الفكرية الغربية وأمام تجديد الاستشراق أدواته بتوظيف لاعبين محليين من خارج الفضاء الأوروبي هل يمكن للمثقف غير الأوروبي الملتزم بقضايا وطنه أن يلعب دورا في مواجهة هذه الهيمنة؟
وكيف يمكن له أن يكون مستقل المعرفة والتفكير؟ يجيب حميد دباشي بالقول ليس هناك من حل غير البقاء على مستوى من الوعي بهذه الهيمنة وعلى وعي بتأثير الفكر الغربي على كل الفكر غير الأوروبي ويطرح الإشكال التالي: في عملية التحرر هذه من الروابط العضوية مع هذا الفكر الغربي المهيمن هل يكون المثقف مضطرا دوما أن يعود إلى هذا الوعاء المعرفي بطريقة أو بأخرى؟ وهل يمكن أن يتجاوز الفكر الغربي وإنتاج معرفة مستقلة عنه؟

تطوير خطاب مستقل

لا يقدم الكاتب إجابة واضحة لقناعته بأن الثقافة الغربية اليوم هي التي تهيمن على كل شيء وهي المرجع في التفكير، ولكن رغم صعوبة الإجابة وكونها معقدة فهو يرى أنه على المثقف غير الأوروبي أن يطور خطابا مستقلا يعبر عنه وعن تجربته وخصوصيته التاريخية وهويته الثقافية من دون الخضوع لأي من الضغوط الغربية.
قيمة الكتاب وأهمية الخطاب الذي يقدمه حميد دباشي والوعي الفكري الذي يسعى الى تأسيسه ونشره لتحقيق الاستقلال الثقافي وفرادة المعرفة والفكر والتفكير في كونه ينتقد مركزية المعرفة الأوروبية وحالة الاستعلاء والهيمنة التي يمارسها على كل الثقافات الأخرى من داخل منظومته الفكرية ولكنه لا يكتفي بذلك بل هو ينتقد أيضا الأصوات التي تنتقد الغرب وتعمل على تفكيك فكره من داخل الحضارة الغربية نفسها فهو ينبه إلى أن الكثير من هذا النقد يشكل هو نفسه جزءا من المشكلة لأنه بقي دوما يتحرك داخل نفس الإطار والنسق الفكري ونفس المنظومة الفكرية الغربية وأدواتها التي تسعى إلى الإبقاء على الهيمنة على العالم فهي لم تستطع أن تتخلص أو تتجاوز نظرة الغرب للعالم وتنتهي إلى عدم القدرة على تقديم البدائل الحقيقية لهذا الفكر الغربي المهيمن.

التفكير ما بعد الاستعماري

هذا التوجه الجديد في إنتاج وعي ما لدى الشعوب والطبقات المثقفة غير الأوروبية يأتي في سياق التفكير ما بعد الاستعماري وفي سياق تطوير خطاب مع بعد استعماري وفي سياق تطوير خطاب ما بعد كولونيالي رافض للهيمنة والتبعية ونابع من الخصوصية الثقافية والتاريخية للشعوب غير الأوروبية وخاصة شعوب عالم الجنوب.
التفكير ما بعد الاستعماري هو تفكير تحرري يسعى إلى تقديم رؤية جديدة للعالم ليست بالضرورة هي نفسها نظرة الغرب. هذا التفكير حسب الكاتب يجب أن يكون قادرا على نقد الهيمنة الغربية و مدركا لخطورة الهيمنة والتبعية للمركزية الغربية والأهم من ذلك أن يكون قادرا على تقديم بدائل أخرى حقيقية في قضايا التنمية والتقدم والتربية والتعليم والتنشئة الاسرية والحكم وممارسة السلطة والعدالة الاجتماعية وإسعاد البشر والحد من الفقر والبطالة والهشاشة والتهميش تكون نابعة من تربته وتستجيب وتعكس حقيقته وتلبي حاجياته.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى