صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب: ميلاد بن محجوب ومشروعه ‘تحريك السواكن’ من أجل مجتمع جديد

slama
كتب: نوفل سلامة

مواصلة في نشاط منتدى الفكر التنويري التونسي الذي يشرف عليه محمد المي التأمت بمدينة الثقافة الشاذلي القليبي ندوة فكرية على مدار كامل يوم السبت 28 سبتمبر المنقضي خصصت لتكريم المفكر التونسي محجوب بن ميلاد ( 4 /7 / 1916- 11 / 7 / 2000 ) أثثها على حصتين صباحية ومسائية ثلة من المفكرين والأساتذة الجامعيين المختصين في فكر الرجل.

كان هاجس هذا الاحتفاء بهذا العلم من أعلام الثقافة التونسية الذي يقول عنه الأستاذ علي حمريت مغبور ومغبون كـ طاهر الحداد وتقريبا منسي ولا يعرفه أحد إلا الجيل القديم الذين واكبوا مرحلة بناء الدولة الحديثة، كان الهاجس في سؤال أي معنى لاستحضار منجز المفكر محجوب بن ميلاد في وقتنا؟
وأي راهنية لفكره في سياق واقعنا اليوم المتسم بالتحوّل والتغيّر والتعقيد؟ وهل من فائدة من العودة إلى ما كتبه ونشره في تطوير الواقع ووضع الإنسان المعاصر المتشعب والذي يعرف تحديات مختلفة عن شواغل زمن محجوب بن ميلاد؟

السياق التاريخي

يقول محمد المي في كلمة تقديمه لهذه الندوة الفكرية أنه لا يمكن فهم فكر محجوب بن ميلاد من دون تنزيله في سياقه التاريخي وسياق تحديات مرحلة ما بعد الاستقلال وبداية التفكير في بناء الدولة والمجتمع والإنسان الجديد كما لا يمكن فهم منجزه الفكري إلا بالرجوع إلى عصره وشواغله، هذه العودة هي عودة مهمة وضرورية لفهم مشروعه الذي عرف به وهو تحريك السواكن وهو سياق البناء والتأسيس وسياق الإصلاح وسياق الإحياء والانبعاث للامة التونسية وصناعة الإنسان التونسي برؤية جديدة وقيم مختلفة تكون مواتية ومتسقة مع ما يتطلبه بناء الدولة والمجتمع، لذلك نجد محجوب بن ميلاد قد اشتغل بالمسألة الفكرية واهتم بعالم الأفكار وأساسا بالمسألة الدينية واعتبر أن أي نهضة وأي تقدم لتونس يجب أن يمر أولا عبر التعليم والاهتمام بالتربية…

مشروع تربوي

لقد عاين أن الرئيس بورقيبة قد أوغل في الشأن السياسي وأعطى الأولية للبناء السياسي ومسألة الحكم واعتنى فرحات حشاد بالمسألة النقابية وتطوير وضع الطبقة الشغيلة واستتباعاتها من القضايا الاجتماعية المعقدة ورأى أن الذي ينقص البلاد وتحتاج إليه الدولة هو البناء التعليمي التربوي وأن التأسيس يحتاج إلى تعليم وتربية وثقافة في المقام الأول وأن نهضة تونس لن تكون إلا بالاعتناء بالمسألة التربوية قبل كل بناء لذلك خصص كل جهده الفكري في تأسيس مشروع تربوي أطلق عليه ‘تحريك السواكن’
يعتبر محجوب بن ميلاد أن مشروعه الفكري هو تتمة لـ مشروع بورقيبة السياسي لذلك نجده قد قاد حركة تجديد في الفكر واسعة وجريئة مست الراكد الديني ولامست الثوابت وتجرأت على عقلية وفكر مشايخ الزيتونة المتحكم واتخذ من الإذاعة منبرا لتقديم تصوره حول الإصلاح والتقدم وعرض برنامجه الإصلاحي وأفكاره في مسامرات وأحاديث إذاعية أسبوعية واعتمد على هذه الوسيلة لنشر التوعية والتثقيف حولها فيما بعد إلى كتاب تحت عنوان ” تحريك السواكن في التربية والتعليم ”

إعادة فهم الذات

كان يعتبر أن مشروعه يصلح لبورقيبة ويسير في نفس فكره الذي قاده إلى فتح باب كبير للنقاش المحرج ومراجعة الثقافة الدينية التقليدية ودخل في حرب ومعركة مع شيوخ الزيتونة الذين اتهموه بالمروق والخروج عن ثوابت الأمة. لقد اعتبر أن أزمة البلاد في أزمة تعليمها وأزمة البلاد في أفرادها وأزمة المجتمع في تخلفه الذي وراءه ثقافة قديمة بالية متحكمة لذلك اعتمد في مشروعه على إعادة فهم الذات وفهم التاريخ وفهم النصوص الدينية…
واعتبر أن مدخل الحداثة يكمن في مراجعة النصوص والقيام بعملية تأويل من أجل فهم جديد لها لا تجاوزها أو القفز عليها وإنما من أجل إيجاد أساس وتأصيل للإنسان الجديد وهو هنا يتفق مع فكر بورقيبة في فهم النص الديني.
ما قام به بن ميلاد في مساءلة الأحاديث النبوية ومناقشة النص القرآني والقيام بعملية تأويل جديدة من أجل فهم ديني جديد ينتهي إلى بناء مسلم جديد مستوعب لتحديات عصره وله من الوعي ما يسمح له من عضد جهد الدولة التنموي وجهدها في عملية العصرنة والتحديث.

عمليات التجديد

لقد حصلت له القناعة أن تجديد الفرد التونسي وصناعة مسلم جديد تمر عبر التجديد في فهم السنة النبوية والتجديد في فهم القرآن وملازمة الاجتهاد والتأويل في النصوص معتمدا منهجا في التفكير لا يتقيد بمذهب فقهي معين وإنما الاستفادة من كل المذاهب والآراء الفقهية الإسلامية وهو بذلك يكون قد خرج عن المركزية السنية في الفهم والتأويل ووسع دائرة المعرفة الدينية وأقر الاجتهاد المنفتح والمتعدد بما يجعل المسلم يعيش عصره دون حرج من وجود معطلات دينية تحول دونه وولوج عصر الحداثة وفكر عصر الأنوار الوافدة علينا من بلد العم سام وبفعل التأثير الأوروبي في بداية الاستقلال ويحقق المصالحة المطلوبة بين الفرد وعصره والمسلم ودينه الذي يراه يرفض الجمود ولا يقبل بالتقليد..

لماذا تم إقصاء الرجل؟

ويبقى السؤال المحير لماذا اقصى بورقيبة هذا المفكر الذي آمن بالمشروع البورقيبي ولكن لا كما فهمه بورقيبة وإنما كما تصوره هو؟ ولماذا تم تحقير الرجل ومحاصرته واقصائه وهو الحامل لمشروع تقدمي لتونس ؟ هل لأن مشروع تحريك السواكن الذي اعتمد على مسائلة النصوص الدينية سنة وقرآنا برؤية التأصيل ولا بنية التجاوز والإبعاد قد جعلت من تأويلات بورقيبة للنص القرآني عملية تأسيس من جديد للفهم و لا تجاوزا للنص وهي الرغبة التي لم يقصدها بورقيبة ولماذا بقى مشروعه مجهولا لم تعتن به دولة الاستقلال والسؤال اليوم ونحن نحتفي بهذا العلم الذي يحتاج أن يعرفه جيل اليوم كيف يمكن استئناف مشروع محجوب بن ميلاد تحريك السواكن في صناعة المسلم والفرد الذي نحتاجه اليوم وبناء العقل الإسلامي الجديد الذي يحتاج اليوم إلى الكثير من الترميم وإعادة البناء وهذا يتطلب حسب محجوب بن ميلاد إعادة النفس إلى نفسها.

فلتة عقلية وفكرية

ما يمكن الخروج به من هذه الندوة التي أتينا على جوانب منها أن المفكر محجوب بن ميلاد هو فلتة عقلية وفكرية ومعرفية تم هدرها و تم تجاهلها وشخصية مركّبة محيرة جمعت بين بين الثقافة الأوروبية المتبصرة والتراث الديني العميق بمنهج الوصل والانبعاث الجديد والإحياء والتأصيل وليس بمنهج الفصل والقطيعة المعرفية مع التراث، كما فعل غيره من الذين اعتبروا أن التراث الديني عبء معطل وأن التقدم لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال القطع معه نهائيا…
فهل وضع محجوب بن ميلاد مشروعه الفكري التنويري التقدمي في مأزق حينما جمع بين الشك والنقد والتأويل مع المحافظة على آلية الاجتهاد الديني والاستفادة من علم القدامى والاعتداد بفكرهم من خلال عملية تأويلية وفهم حديثين.
ماذا بقي من محجوب بن ميلاد؟ بقيت النزعة العقلانية التي دافع عنها وبقى تعويله على بناء الذات المسلمة مدخلا لبناء الدولة والمجتمع وبقى مشروعه التربوي التعليمي القائم على ربط المسألة التربوية بالمسألة الدينية ودمج الإصلاح التربوي بالاستفادة بمناهج علم النفس وأفكار المذهب الطبيعي والنزعة الإنسانية.
إننا نعتقد أن المفكر محجوب بن ميلاد يحتاج إلى عودة أخرى لتسليط الضوء على منجزه الفكري الذي لم ترض عنه الزيتونة وتجاهله بورقيبة وغفلت عنه دولة الاستقلال وتنكر له رفاقه وعاداه معاصروه وحاربوه لفكرته الجوهرية التي قام عليها مشروعه تحريك السواكن في مجال الفكر والمعرفة والدين من أجل تحريك الواقع وتطويره في عملية تصالح تاريخية بين الدين والواقع والنص والفهم والتأويل للوصل لا الفصل.
لقد أجاب على سؤال هل من الممكن أن نُجزأ حداثة من خلال النص الديني؟ وهل يمكن أن نحقق تعايشا بين الواقع المتجدد والمتحرك والنص الديني الثابت كما روج له الفقهاء؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى