نوفل سلامة يكتب: مقاربة المفكرة اليسارية الألمانية ‘حنة أرندت’ لظاهرة الجريمة في المجتمع

كتب: نوفل سلامة
نحاول في هذا المقال أن نغيّر من زاوية النظر في ظاهرة الجريمة التي تعرف اليوم توسعا وتمددا ملفتا في مجتمعنا، وأن نتخلى عن مقاربة الأرقام والإحصائيات على أهميتها في فهم الظاهرة..
ونتجنب ـ ولو ظرفيا ـ الحديث عن مخلفات الجريمة وأثارها الخطيرة على الأفراد والمجتمع وأن نبتعد قليلا عن المقاربات العلاجية التي تركز بالأساس على الحل الأمني والحل العقابي القضائي، وأن نسبح في عالم الفكر والفلسفة ونحاور الأسباب الحقيقية والخفية لتفسير كيف ولماذا يلجأ الفرد إلى استعمال العنف وارتكاب الجرائم؟
مقاربة مختلفة…
ونتوقف عند بعض الحلول المهمة والمغيبة من تفكيرنا وفهمنا وقد اخترنا في مسارنا هذا المفكرة والفيلسوفة اليسارية الألمانية ” حنة أرندت ” ( 1906/ 1975) لنتأمل في وجهة نظرها ومقاربتها في تناول ظاهرة الجريمة المرتبطة بظاهرة العنف.
لـ حنة أرندت عدة مؤلفات مهمة ولكن كتابها ‘إضاءات لفهم الواقع’ وكتابها ” في العنف ” يعتبران مع مقالات أخرى من الكتب المرجعية في فهم ظاهرة الجريمة وظاهرة العنف ففي دراستها لهذه الظاهرة تربط حنة أرندت الممارسة العنيفة بالشعور بالمظلومية، فهي تعتبر أنه في المطلق فإن الفرد لا يلجأ إلى توخي سلوك عنيف إلا حينما ينتابه شعور بالمظلومية…
وهو حال كل الشعوب التي يمارس عليها ظلم وتسلط واستبداد ولكنها تعتبر أن الأخطر من العنف والممارسة العنيفة هو تحويله من مجرد ردة فعل إلى أيديولوجيا وقناعة والأخطر من ذلك هو تبريره والدفاع عنه وإيجاد المسوغات للمواصلة فيه…
معرفة حقيقة العنف
وترى أن أهمية التفكير في الجريمة وفي ممارسة العنف تكمن في معرفة حقيقته المركبة والملتبسة والتي لا يمكن فهمها ولا تفسيرها بعامل واحد، وهذا ما يدعو في نظرها عند تعاملنا مع ظاهرة الجريمة أن لا نكتفي بإدانة الفعل الإجرامي والفعل العنيف وأن نتعامل مع الظاهرة كظاهرة مركبة تتجاوز مجرد الإدانة أو التفكير في العقوبة وهي فيما تطرحه وتطالب به تستعين بمفهوم الحقيقة في بعدها الفلسفي التي تختلف من فرد إلى آخر…
فحقيقة فرد ما ليست بالضرورة هي حقيقة فرد آخر ولا حقيقة المجتمع فالشخص المجرم له حقيقته التي ينطلق منها، والتي يبحث عنها ويدافع عنها فهو يرتكب الفعل الإجرامي لأنه يعتقد أن الحقيقة معه وأن ما يفعله لا يخرج عن كونه قد أرسى الحقيقة التي يبحث عنها ولها مبرراتها عنده، فـ تحليل الظاهرة من منظور فلسفي ومنظور الحقيقة الفلسفية قد جعل حنة أرندت تعتبر أن الحقيقة هي النهاية والغاية والهدف الذي يبحث عنها كل إنسان ويتمثلها في ذهنه…
تصوّرات الحقيقة
لذلك كانت تصوراتنا عن الحقيقة بديهية ساذجة ومسلماتنا هي الأخرى غير عقلانية، فما يراه الإنسان ويشعر به يمثل حقيقته التي ينطلق منها وينتهي إليها للقيام بكل الممارسات في حياته حتى وإن كانت جرائم يعاقب عليها المجتمع فهي في نظره حقيقته، فالشخص العنيف والمجرم لا يعتبر أن الحقيقة متغيرة وغير ثابتة وهي متحولة وتختلف من شخص إلى آخر وتتحدد بالأحداث والوقائع فما يعتبره المجرم حقيقة تمنحه مشروعية صواب فعله هو في نظر المجتمع والقانون مخالفات وانحرافات وخروج عن السلم الاجتماعي…
مراجعة مفهوم الحقيقة
تعتبر حنة أرندت أن الجريمة والعنف الاجتماعي مرتبطان بمفهوم الأفراد للحقيقة وتمثلاتها عندهم، لذلك فهي في معالجتها للظاهرة تطالب بمراجعة مفهوم الحقيقة عند الفرد والتحرر من البداهة الخادعة التي تعتبر أن الممارسة العنيفة والفعل الإجرامي أنما يعبر عن حقيقة نؤمن بها، ولا بد أن ندافع عنها وهذا الربط بين الفعل الإجرامي و مفهوم الحقيقة عند الفرد قد جعل حنه أرندت تعرّف العنف المؤدي إلى ارتكاب الجرائم على أنه رغبة وميل طبيعي عند الفرد، ومن العنف ما يكون ردة فعل عفوية تجاه شعورنا بالخطر أو في مواجهة عنف آخر مقابل..
وقد يكون ممارسة عشوائية لا تقترن بدوافع ولا ترتبط بأهداف وإنما هو سلوك طبيعي عند الفرد يلجأ إليه كلما رأي أنه يعبر عن حقيقة يؤمن بها ولا يمكن الدفاع عنها إلا بهذه الوسيلة.
التوقي من الجريمة
بعد هذه المحاولة من المفكرة حنه أرندت لبلورة فهم فلسفي لظاهرة الجريمة والعنف في المجتمع تقدم بعض الحلول للتوقي من الظاهرة وتعتبر أنه لا مخرج من الجريمة في المجتمع ولا حل مع ظاهرة العنف الجسدي من دون إرساء تصور حياتي يقبل بالاختلاف ويكفل التعايش ويضمن السلم والأمان والراحة والهدوء حتى يحقق الانسان انسانيته في علاقة بذاته وبالآخرين والمجتمع والدولة ومنظومة القيم وبفكرة الحق والعدل ودمج الأفراد وانصهار المجتمع بكامله في مشروع وطني واحد بتصورات مشتركة وخيارات جماعية يجد فيها كل فرد رغباته وأهدافه وآمانيه فهي تؤكد في مشروعها إرساء مجتمع دون عنف ولا جريمة على ضرورة إيجاد فضاء عام مشترك يحقق القيم الإنسانية قولا وممارسة فالإنسان الفاعل في نظرها هو الذي يقاوم عنف العالم وعنف الآخرين.
بناء الفرد الجديد
تعتبر حنة أرندت أنه لا يمكن الوصول إلى هذا التصور للمجتمع الخالي من مظاهر العنف والجريمة والانتهاء من معضلة الجريمة العنيفة من دون بناء الفرد الجديد وبناء الذات والشخصية الأمر الذي يعطي للعنف والجريمة بعدا أخلاقيا إلى جانب أبعادها الأخرى وخاصة علاقة الفرد بالأخرين والتلازم بين الأخلاقي والذاتي والأخلاقي والقانوني وضبط السلطة فنحن إزاء الفعل الاجرامي وظاهرة العنف إزاء ذات فاعلة تقاوم من أجل بقائها ووجودها والدفاع عن وجهة نظرها للأشياء وأمام سلوك يغيب عنه مفهوم الدولة الديمقراطية ومفهوم المواطنة الفاعلة واحترام الحقوق والحريات.
بناء الذات الفاعلة
في هذا السياق من التحليل تفاجئنا حنة أرندت وهي اليسارية المتشبعة بالفكر الماركسي عند حديثها عن بناء الذات الفاعلة للتخلص من السلوك العنيف ومن مظاهر الجريمة حينما تعتبر أن فقدان الإيمان التقليدي عند الأفراد وتراجع حضور الدين في المجتمع قد أدى إلى فراغ روحي مما جعل الأفراد أكثر عرضة للانخراط في الأيديولوجيات الشمولية فكل المناقشات المتعلقة بالدين والجريمة والعنف قد انتهت إلى أن المرء لا يمكنه أن يتملص من سؤال الحقيقة ومن ثم لا يمكنه أن يعالج الموضوع كما لو كان تصورا يصوغه بمفرده وبخاصة نفسه ومن خلال تجربته الخاصة و كأنه يعرف ما هو صالح به وما لا يصلح به . هناك اليوم فراغ بين الممارسة الدينية وبين الوعي الديني وقدرة الإيمان الديني في التحكم وصياغة وعي الانسان.
هذه النظرة التي تجعل من إحدى الأسباب الرئيسية لإقدام الأفراد على استعمال العنف وارتكاب الجرائم في غياب الإيمان الديني من حياة الأفراد وغياب الوعي الديني الذي يبني الذات الفاعلة التي تجعل الفرد يمتنع على ارتكاب الجرائم بمختلف أنواعها وحل مشاكله من خلال الجريمة من دون تدخل من قانون أو سلطة حاكمة وانما بوازع ذاتي ينبع من قناعة داخلية و بوازع الإيمان الديني للأفراد بأن الفعل الإجرامي الذي يرتكبه هو مناف بقناعاته الدينية هي مقاربة جريئة مبعدة من الرؤية الموجودة اليوم للتعاطي مع ظاهرة الجريمة والعنف في المجتمع تستحق أن نفكر فيها وأن نتأملها.