صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب: معوقات الحداثة السياسية التي وعدت بها الثورة..

slama
كتب: نوفل سلامة

حديث الثورة حديث متواصل لا ينتهي ولن ينتهي… وخاصة ما تعلق منه بمسارها المتعثر ومنعرجاتها السياسية الخطيرة التي كانت لها تداعيات مؤثرة على الداخل التونسي وحتى على محيطها القريب والبعيد…

بالاضافة إلى فشلها في تحقيق أهدافها وتحقيق طموحات وآمال من قام بها، وخاصة شباب وسكان الدواخل والجهات المهمشة والمناطق المنسية والمحرومة الذين انخرطوا بقوة وكثافة في حراكها، وبدايتها الأولى التي انطلقت يوم 17 ديسمبر 2010 وتوجت يوم 14 جانفي 2011 بسقوط رأس النظام من دون تفكيك منظومة حكمه التي بقيت متحكمة في كل مفاصل الدولة والمجتمع ومؤثرة، وكانت فاعلة في الأيام التي تلت حدث الثورة…

معالم الطريق

حول هذه القضية وغيرها من القضايا التي تهم موضوع أهمية علم الاجتماع ومختلف القضايا السوسيولوجية التي تهم المجتمع ودور أساتذة علم الاجتماع والباحثين في سوسيولوجيا الشعوب في فهم ظواهر المجتمع، وتفسير عوامل التغيرات الحاصلة فيه ومنها التغيرات التي حصلت في المجتمع التونسي، ودور المثقف والأكاديمي الجامعي المختص في تفسير هذه الظواهر وما حصل ويحصل للمجتمع، وتلمس معالم الطريق وتفكيك المعوقات والمعضلات من أجل غد أفضل و مستقبل أحسن للبلاد…

أهمية علم الاجتماع

حول كل هذه المواضيع أجرى الدكتور جلال التليلي الأستاذ المحاضر في الجامعة التونسية والمتخصص في سوسيولوجيا الاتصال والباحث في القضايا الاجتماعية المتعلقة بالفقر والتهميش والإرهاب والثورة، حوارا تحدث فيه عن واقع أساتذة علم الاجتماع وعن تغييّبهم في النقاش العام، وعن عملية اقصائهم من المشهد السياسي والإعلامي وعدم تشريكهم في اتخاذ القرار لمعالجة مختلف الظواهر الاجتماعية التي تكبل عمل رجل السياسة…

وأكد على أهمية علم الاجتماع وأهمية أن يكون إلى جانب رجل السياسة ومن أوكلت إليه مهمة إدارة الشأن العام مختص في العلوم الاجتماعية باعتبار أن مهمة علم الاجتماع كما تشكل مع كارل ماركس وتركيزه على ظاهرة صراع الطبقات محركا للتاريخ والتغيير الاجتماعي ومحاربة الهيمنة الاجتماعية للطبقات العاملة والفقيرة أو فكرة ‘الأنوميا’، وما يعبر عنه إميل دوركايم بحالة الاضطراب والقلق الناجمة عن انهيار المعايير والقيم الاجتماعية أو افتقار الهدف والمثل العليا أو معالجة ظواهر العقلانية، ونزع السحر عن العالم مع ماكس فيبر هو فهم وتحليل هذه الظواهر وتفكيك مساراتها الاجتماعية وتفكيك الهيمنة التي تفرزها وآلياتها والتنبيه إلى معوقاتها التي تمثل مقاومة لكل تغيير اجتماعي في بناء مسارات تنموية دامجة وعادلة تشتمل على مختلف الأبعاد التنموية الإنسانية والاقتصادية والسياسية والثقافية في عملية دمج لمختلف الفاعلين الذين هم أداة التنمية وهدفها في الوقت ذاته.

فهم آليات الهيمنة

في هذا السياق من الحديث عن دور عالم الاجتماع والدور الذي يلعبه الباحث في سوسيولوجيا الشعوب في إعانة السياسي على فهم آليات الهيمنة التي تسلط على الأفراد وفضح الاستراتيجيات الخفية التي تقيّد ذواتهم وتمنعهم من التحرر والانعتاق من كل العوامل الخفية، سواء تجسدت هذه الظواهر في السحر والشعوذة أو في قوى الهيمنة الاقتصادية والمالية وما تفرضه من نمط ونسق عيش استهلاكي أو في المكبلات الاجتماعية من واقع الخصاصة والحرمان والتهميش أو عوامل سياسية لها علاقة بمنظومة القيم المتحكمة ومنظومة القوانين التي تفرضها السلطة السياسية وتحكم بها، تعرّض جلال التليلي إلى ظاهرة جديدة من ظواهر الهيمنة والسيطرة التي تسلط على الشعوب تمثلت في ما يعرف بترذيل الفن والإبداع وتقديم نوعية من البرامج الإعلامية والمضامين التلفزية تصب في استراتيجية التفاهة و الإلهاء والتلهية والترفيه الساذج الذي ينتج وعيا مزيفا ويكلس العقل ويزيد من الهيمنة العقلية والنفسية التي تبتعد بالمواطن عن قضاياه الحقيقية وما يهمه ويعنيه، لينتج في النهاية شعبا نمطيا بسيطا في تفكيره و مزيفا في وعيه وقابلا بكل شيء متصالحا مع الرداءة وقابلا بالفساد و متعاملا مع الفشل والفاشلين…

صناعة رأي عام

وهذا النهج ينتج ما قاله المفكر ” برتولت بريشت ” ( 1898 / 1956 ) بأن أسوأ أنواع الفنانين الأميين هم الفنانون والأميون سياسيا الذين لا يستمعون ولا يتكلمون ولا يشاركون في الأحداث السياسية ولا يدركون أن السياسة التي يتفاخرون أنهم لا يحبونها هي التي تنتج التشوهات التي تكون مواضيع أعمالهم الفنية ” هذه النوعية من الرموز التي تصدرت المشهد الإعلامي والفني والثقافي ويفسح لها المجال، ويعطى لها الفضاءات للتأثير والتوجيه بما تقدمه من أعمال يتم الترويج لها على أنها إبداع وفن وثقافة، ويعطى لها مهمة تشكيل وصناعة رأي عام هي صورة من صور الرداءة التي تعمّ اليوم المشهد الثقافي وهي صورة من صور الفنان والمثقف المزيف الذي تحدث عنه بريشت الفاقد للرؤية الجمالية التحررية التي تؤهلهم ليتحولوا إلى فنانين ومثقفين عضوين لـ بناء كتلة تاريخية قادرة على التغيير والارتقاء بالمجتمع وتطوير وعيه وذوقه نحو الأفضل وتحصين الأفراد من مخاطر الرداءة و التفاهة والابتذال والتلاعب والتوجيه…

دور عالم الاجتماع

ينتقل جلال التليلي بعد كل هذا الحديث عن دور عالم الاجتماع في فهم وتفسير وتفكيك كل المظاهر والظواهر الاجتماعية الخطيرة التي تهدد المجتمعات العربية ومنها المجتمع التونسي والتنبيه إلى ما يحصل من تنفيذ استراتيجيات الهيمنة والإلهاء والتزييف والتخدير إلى الحديث عن عوامل فشل الثورة واستراتيجيات إفشالها وجعلها تتعثر نحو التخلي عنها والارتداد على مسارها الذي وثقت فيه الشعوب…
فـ يعتبر أن الثورة كما عرّفها علماء الاجتماع الذين درسوا وتابعوا حركة الثورات عبر التاريخ هي سيرورة وحركة تقوم على عملية هدم القديم وإعادة بناء للجديد يصاحبها أو هي تفرز فاعلين سياسيين ونخب انتلجنسيا، يكون لها القدرة على تحويل شعاراتها ومطالبها إلى برنامج سياسي ومشروع مجتمعي بديل ” وما حصل في تونس لم يكن ثورة بالمعنى السوسيولوجي للكلمة وبالفهم الذي يقدمه الباحثون في العلوم الاجتماعية وإنما الذي حدث هو أقرب إلى معنى الانتفاضة الشعبية التي أنهت حكم نظام سياسي ولم تتمكن من تحويل إنهاء حكم سلطة تسلطية استبدادية إلى سيرورة وثورة دائمة تربط المطالب الديمقراطية بالمطالب الشعبية العمالية….

تعطل الحلم..

لقد تعطل هذا الحلم وتعثر الإنجاز بسبب عدة عوامل أهمها العامل السياسي ممثلا في تشتت وضعف القوى اليسارية والعمالية مقابل استيلاء قوى الثورة المضادة وأكثر الفئات البورجوازية الخائفة من التغيير، والتي فعلت كل ما يمكن فعله من أجل الحفاظ على مواقعها ومراكزها ومصالحها التي اكتسبتها في زمن النظام القديم على المسار، والتفت على مرحلة الانتقال الديمقراطي وقدرت أن تجعل الشعب يكره الثورة ويكره السياسيين ويلفظ فكرة الحرية والديمقراطية…
وهي في ذلك معتمدة على عامل الثقافة السياسية الهش والغائب لدى الغالبية الساحقة من الطبقات والفئات الشعبية المتخوفة من التغيير والإصلاح والراغبة في الحفاظ على وضعها، كما هو لقد تعثرت تجربة الانتقال الديمقراطي بعد سقوط النظام وصعب على من تولى إدارة مرحلة الثورة على إعادة تشكيل الحقل السياسي ورسم آفاقه المستقبلية…

فشل في بناء حداثة سياسية

وهذا ما جعل حسب جلال التليلي الثورة التونسية تفشل في بناء حداثة سياسية كان الكثير من أبناء الشعب التونسي يحلم بها ومعها في بناء عالم شبيه بالعالم الحر والحياة الغربية بعد سقوط نظام بن علي، وبالإضافة إلى المعطلات التي ذكرها يضيف عامل الثنائيات التي تصارعت فيما بينها وبرزت بقوة في الأيام الأولى للثورة والسنوات الصعبة التي تلتها في ما يعرف بالتداخل بين العامل السياسي والعامل الديني…
وكيفية التعامل مع إرث الدولة التسلطية التي تكوّن منذ الاستقلال وأصّل لتنشئة سياسية تحولت إلى عامل موجه للسلوك السياسي تسبب في إقصاء الكثير من الفئات الاجتماعية ومنعها من المشاركة المتساوية في الفعل السياسي والاجتماعي…

هشاشة ديمقراطية

كل هذا أنتج هشاشة في بعض المكاسب الديمقراطية التي افتخرنا بها ولا نزال في مقابل استبعاد مطلب العدالة الاجتماعية بوصفها مدخلا تنمويا ضامنا للدولة المدنية والاستقرار الديمقراطي..
وانتج هذا المسار في النهاية مجتمعا مترددا في خياراته التحديثية والعقلانية مُثقل بـ أزمته الأخلاقية القيمية التي لازمتها أزمته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المستفحلة…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى