صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب/ في مسألة أخلقة الذكاء الاصطناعي: هل يمكن إيقاف التطور التكنولوجي؟

slama
كتب: نوفل سلامة

من القضايا الكبرى المطروحة اليوم على شعوب وحكومات ودول العالم معرفة كيف يمكن الإندماج في هذه العوالم الجديدة وأساسها الذكاء الاصطناعي الذي يفرض علينا وجهة نظره وضرورة مسايرتها والانخراط في مسارها؟ ومعرفة كيف نساير ما يحدث اليوم من تطور تكنولوجي مهول وتطور رقمي غير مسبوق؟…

ما العمل؟

والجواب على سؤال ما العمل أمام ما نشاهده من صعود مثير ومتسارع للذكاء الاصطناعي خاصة وأنه يلامس العديد من المجالات المؤثرة في حياة الإنسان الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية؟ وكيف نتصرف تجاه انعكاسات هذا التطور المذهل للذكاء الاصطناعي والمخاوف والتهديدات التي بدأ ينبه إليها الكثير من العلماء من وراء مواصلة تطوير البرمجيات والتطبيقات التكنولوجية؟

انجازات مذهلة

اليوم وبعد الإعلان عن آخر ما توصل إليه العقل البشري من إنجازات مذهلة في مجال التكنولوجيا الرقمية وما حققه الإبداع الإنساني من نقلة نوعية سوف تغيّر مجرى التاريخ الإنساني وتُدخل العالم في فضاء آخر لا أحد يمكن أن يتكهن بمآلاته وتداعياته على حياة البشر…
فإن الأسئلة كثيرة حول التاريخ الجديد للكشوفات والتطورات العلمية والتقدم التكنولوجي والرقمي الذي كنّا في الأمس القريب نتحدّث عنه بكثير من الإعجاب والانبهار والفخر ولكن اليوم أصبحت الإنسانية تنتبه إلى وجود جملة من الاخلالات والمخاطر والانعكاسات السلبية على حياة البشر ومستقبل الإنسانية في علاقة بالزاوية المغيبة أو المتغافل عنها لهذه الطفرة التكنولوجية وهذا التقدم العلمي في مجال الذكاء الاصطناعي وهي جوانب تتعلق بالمسألة الأخلاقية ومسألة القيم والتأثيرات الاجتماعية والاقتصادية.
يتوقع العلماء حدوث تغيرات كبرى في قادم الأعوام وخاصة في الخمس سنوات القادمة مفصلية ومؤثرة بصفة جلية نتيجة الذكاء الاصطناعي وما رافقه من تطور صناعة الروبوتات التي من المنتظر أن تغزو حياة البشر في جميع المجالات مثلما كان الحال بالنسبة للانترنت التي قيل عند ظهورها لأول مرة أنها سوف تستعمل في المجال العلمي والدراسي البحت حكرا على النخبة العلمية والتقنية، فإذا بها تتحول فيما بعد إلى استعمال يومي لملايين البشر.. في آخر إحصاء حول استعمال الأنترنات اتضح أن حوالي 92 بالمائة من التونسيين يقضون بين ساعة وعشر ساعات على الشبكة العنكبوتية.

واقع ملموس

هل يمكن اليوم وبعد أن أصبح الذكاء الاصطناعي واقعا ملموسا في حياتنا وبعد أن أصبح مؤثرا ومطروحا بقوة في حياتنا، أن نوقف أو أن نتوقف كما يدعو بعض العلماء عن تطوير هذا النوع من المعرفة التكنولوجية والقيام بوقفة تأمل وتفكير في مآل الإنسانية في ظل عالم أصبحت تتحكم فيه الآلة والبرمجيات المتطورة جدا؟
هل يمكن أن نسأل إلى أين يسير العقل البشري بغروره وثقته المفرطة ؟ وهل يمكن معرفة إلى أي مدى يمكن أن يصل هذا الذكاء الاصطناعي وما هي حدوده الممكنة؟ وهل له حدود ممكنة ؟
حاليا لا يمكن العودة إلى الوراء كما أن منطق الأشياء ومنطق التاريخ يقول أنه لا يمكن أن نوقف الاختراعات والاكتشافات والابتكارات، ولا يمكن أن نوقف الذكاء البشري وتطور المعرفة الإنسانية لا تتقدم وتتطور إلا بمزيد من التحسين المتواصل فيما يتحقق من تطورات علمية… وهكذا تتقدم البشرية وتواصل حياتها وتضمن بقاءها…

ولكن مع تقنيات الذكاء الاصطناعي فإن السؤال يصبح أكثر من مشروع ويكتسي الكثير من المعقولية ويحتاج إلى التفكير والبحث والنقاش حول جملة من الإشكاليات التي يثيرها التطور الأخير للتكنولوجيا الرقمية، أو ما اصطلح على تسميته بالذكاء الاصطناعي في علاقة بحياة الإنسان ومصيره ومستقبله في مسائل تتعلق باختفاء العديد من فرص العمل والكثير من الوظائف التي سوف يتم الاستغناء عنها…

تغيرات عميقة

وفي علاقة بمسألة التعليم ومستقبل المدرسة في شكلها الحالي بعد أن يصبح من الممكن التعلم دون حاجة إلى المدرسة، وفي علاقة بالكثير من المجالات والميادين التي سوف تختفي في مجال الفن والإبداع حيث من المنتظر أن يتم الاستغناء عن الجهد الإنساني لصالح الآلة والبرمجيات المتطورة القادرة على توفير ما يحتاجه الإنسان في مجال الغناء والموسيقى والرسم والصورة وكتابة السيناريوهات للسينما والمسرح وحتى في مجال الأدب من قصة وشعر بما يقلص من الحيز الزمني لقضاء الحاجيات والمتطلبات التي تحتاج وقتا ويفتح المجال للقدرات البشرية للإسهام في بناء واقع حضاري أفضل…

ميثاق عالمي

ما هو مطروح اليوم وينبّه إليه الكثير من العلماء وتحذر منه الكثير من مراكز البحث حول العالم التي تعمل في مجال استشراف المستقبل في إطار علم المستقبليات هو الوصول إلى اتفاق حول ميثاق عالمي للمعرفة الرقمية أو وثيقة نفاهم إنساني تحدد نطاق تطور الذكاء الاصطناعي في اتجاه تطوير البحث العلمي وحصره في مجال عمل الجامعات والبحوث الاكاديمية، ووضع ضوابط علمية حتى لا ينفلت الذكاء الاصطناعي ويخرج عن سيطرة الإنسان الذي صممه في مجال الأخلاق والقيم والاجتماع و في علاقة بكل ما يهدد حياته خاصة وأن هناك توقعات لو تواصل التطور العلمي على هذا النسق أن تتمرد الآلة على الإنسان وتخرج البرمجيات والتطبيقات التكنولوجية عن سيطرة العقل البشري وتصبح قادرة على التحكم في مختلف أوجه الحياة الإنسانية وتوجهها…

كتابة تاريخ جديد

لذلك فإن المطلوب اليوم والعالم على أبواب كتابة تاريخ جديد وصياغة روح عصر متسارع متعجل ومنفلت أن تتوصل البشرية إلى توافق ضروري من أجل وضع ميثاق لأخلقة المعرفة في اتجاه الحد من المخاطر والتهديدات المتوقعة نتيجة الإفراط المتهور في تطوير التكنولوجيا وعقلنة هذه الكشوفات بما يخدم الانسانية بدل تدميرها ويضمن قدرا من الاستفادة من التطور التكنولوجي والرقمي بشكل جيد لصالح الإنسان.
إن طبيعة حركة التاريخ ومسار تطور الحضارات تفيد أن الإنسان لا يتقدم ولا يحافظ على بقائه إلا بمزيد من المعرفة وبما يقطعه من أشواط في العلم والتحول الدائم والمتواصل في البحث والمعرفة التي عليها أن لا تتوقف وإلا توقفت الإنسانية فتاريخ الإنسان منذ بدء الخليقة هو تاريخ سمته المغامرة والاكتشاف والخلق والإبداع فكل المنعطفات الكبرى في تاريخ البشرية كان مبدؤها الحاجة التي تدفع إلى التفكير وإعمال العقل والاكتشاف والاختراع من أجل تحسين الوجود الإنساني وتحقيق جودة الحياة فوق هذه الأرض وجعل الحياة أكثر يسرا، فمسائل التجديد والتطور والخلق لا تتوقف وإلا توقفت الحياة فوق هذه البسيطة ومعها يندثر العنصر البشري فالتقنيات المتطورة والتكنولوجيا الجديدة تقوم بدور الميسر لكل المعيقات الممكنة والتي تجعل الحياة فوق هذه الأرض صعبة وعسيرة…

العقل الالي

لكن أمام هذه الإسهامات المهمة التي يقدمها التقدم العلمي في المجال الرقمي وتكنولوجيا الاتصال وأمام آخر ما توصل إليه العقل البشري في مجال الذكاء الاصطناعي وما حققه من نقلة ضوئية في مجال البرمجيات والتطبيقات الإعلامية، فإن الحيرة اليوم وهي بادية ولن تتبدد أمام ما يقدمه الذكاء الاصطناعي من خدمات لتسهيل حياة الإنسان وتذليل كل الصعوبات لجعل الحياة أكثر رفاهية في معرفة مآل هذا الذكاء الآلي…
وهذا الذكاء الرقمي الذي صنعه العقل البشري وخطط له الإنسان بإرادته والحيرة اليوم كبيرة في علاقة بمسألة المشاعر الإنسانية التي لن نجد لها مكانا في هذا العالم الجديد والعواطف التي تميز الكائن البشري ومسألة القيم والأخلاق في عالم يتحكم فيه العقل الآلي والذكاء الاصطناعي ومسألة الكينونة البشرية المهددة بالاندثار في علاقة بمستقبل الأسرة والعلاقات الانسانية وكل الأطر التي تشكل اليوم حياتنا فهل هو إفلاس العقلانية وفشل الحداثة والتنوير الغربيين الذي يقول عنهما المفكر الهندي ” بانكاج ميشرا ” في كتابه ” زمن الغضب تأريخ الحاضر ” إنهما انتجا لنا الكثير من الكوارث من ارهاب وتراجع بيئي وتمدد الفقر وتوسع دائرة التهميش وتحكم الأغنياء في العالم واستحواذهم على المال والثروة وعولمة ظالمة لم تحقق وعد إسعاد الإنسان ..
ومن هذه الكوارث لزمن العولمة والحداثة الغربية تحكم الآلة وعودة العبودية من جديد وعودة استعباد الإنسان في شكل جديد من طرف الآلة والبرمجيات والتطبيقات الاعلامية التي صنعها الإنسان بإرادته ..” المشكل الكبير اليوم أن الإنسانية ليس لديها ما تطرحه لمواجهة مخاطر الذكاء الاصطناعي الذي فرض نفسه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى