نوفل سلامة يكتب: سنوات الرعب وحقائق أخرى عن اغتيال الزعيم صالح بن يوسف…

كتب: نوفل سلامة
قدم الدكتور علي الشابي السياسي المعروف الذي تقلد أول منصب لـ وزير الشؤون الدينية من سنة 1992 إلى سنة 1999 حيث كان يشرف على الوزارة قبله كاتب دولة للشؤون الدينية في كتابه ‘صدى الذكريات’ الصادر سنة 2010 عن دار نقوش عربية في 251 صفحة شهادة هامة ومثيرة وتستحق التوقف عندها في الفصل المخصص لـ ملابسات اغتيال صالح بن يوسف حيث تحدث على ما حصل له في الأيام الأخيرة قبل مقتل الزعيم صالح بن يوسف….
حالة خوف وشك
يقول علي الشابي لما كنت بالقاهرة أزاول تعليمي اتصل بي في شهر جوان 1961 أي قبل شهرين تقريبا من عملية الاغتيال التي تعرض لها بن يوسف
وجدّت في 12 أوت من سنة 1961 بنزل روايال بمدينة فرانكفورت بألمانيا، طالب تونسي كنت أعرفه يريد الالتحاق بالجامعة وأعلمني بأنه كان مسجونا بسبب توجهه القومي .. بهذه المقدمة يلمح علي الشابي إلى الوضع الذي باتت عليه البلاد في تلك الفترة من تاريخ تونس من حالة الإغراق في الأعمال استخباراتية والعمل الكبير الذي كان جهاز المخابرات التونسي يقوم به في تعقب المعارضين من اليوسفيين ومن عملية تجنيد للمخبرين والمندسين بين الطلبة والمناضلين اليوسفيين الموجودين خارج الوطن..
والتقارير التي كانت تكتب وترسل للحزب بحق أي شخص يشتم منه رائحة الانتماء أو التعاطف مع اليوسفيين وحالة الخوف والشك والريبة والرعب التي كبلت البلاد وما انجر عنها من انقسام البلاد إلى شقين شق مع بورقيبة وآخر مع بن يوسف، حتى أصبح الفرد يخاف من صديقه وقريبه وحالة من التحوط من الحديث في السياسة والشأن العام أمام أي شخص ليست لنا معه معرفة وكيف تكونت خلية مكلفة بتتبع نشاط بن يوسف واستدراجه من أجل اغتياله…
جاسوس؟
وكيف تجنّب على الشابي الحديث في الوضع السياسي بالبلاد مع هذا الزائر الذي لا يعلم لماذا جاء إليه هو بالذات تحت وصية قريبه، وهو يودعه في مطار تونس يوم سفره إلى القاهرة للدراسة في سنة 1956 بأن لا يتحدث في السياسة مع أي شخص لا يعرفه…
حيث قدّر علي الشابي أن زائره كان مخبرا و جاسوسا جاء لينقل المعلومات إلى جهاز البوليس السياسي وهياكل الحزب بعد أن شك في تصرفاته وطريقة كلامه وحديثه، وانه جاء لمهمة نقل الاخبار عن معارضي بورقيبة لجهاز الحكم وخاصة اتصالاته المكثفة مع الطلبة التونسيين والجزائريين.. يقول علي الشابي تلقيت خبر وفاة صالح بن يوسف يوم 12 أوت سنة 1961 من خلال خبر نشرته جريدة الأهرام المصرية وللتو سألت عن الزائر المريب الذي حل بالقاهرة فعلمت أنه عاد إلى تونس…
أجواء مشحونة
يعود علي الشابي إلى الحديث عن الجو المشحون الذي سبق عملية الاغتيال وعن الوضع الداخلي المضطرب، وعن حالة التوتر الكبيرة التي وصلت إليها العلاقة بين الزعيمين بورقيبة وبن يوسف التي يصفها الصافي سعيد في كتابه ” بورقيبة سيرة شبه محرمة ” بأنها قد وصلت إلى الحد الذي لم تعد من الممكن أن يبقى إلا واحدا منهما فقط، وأن الصراع قد بلغ مرحلة كانت ينبئ بمقتل أحدهما على يد الآخر وأن عملية التعايش بينهما والوفاق كانت مستحيلة..
إعدامات
عاد يذّكر بأن عملية اغتيال صالح بن يوسف قد سبقها إحباط محاولة اغتيال خطط لها بن يوسف ونفذها بعض اليوسفيين لتصفية الرئيس بورقيبة سنة 1958 وتم التفطن إليها والقبض على منفذها وهو” صالح النجار” القادم من القاهرة والمكلف باغتيال بورقيبة، وقد تمكن من الفرار قبل أن يتم القبض عليه ثانية في طرابلس في عملية استدراج حصلت له من قبل شخص لا يذكر علي الشابي إسمه وتم الحكم عليه سنة 1959 مع 121 متهما آخرين كان من بينهم الشخص الذي استدرجه وتم إعدام صالح النجار مع 8 أشخاص من المجموعة المكلفة بالاغتيال.
يعلّق علي الشابي على هذه الواقعة بالقول بأن التفكير في التصفية الجسدية كانت تخامر الزعيمين وبأن كلا من بورقيبة وبن صالح قد وصل بهما الخلاف والصراع على الحكم حدا خطيرا انتهى بأخذ قرار التصفية، وقد قدّرت أن الزائر الذي جاءني إلي بيتي بالقاهرة كان عضوا في خلية مكلفة بملاحقة بن يوسف واستدراجه بقصد إغتياله، وأن بن يوسف هو الآخر قد عزم أمره لاغتيال بورقيبة وأن تربص كل من بورقيبة وبن يوسف بالآخر كان واضحا إلا أن الحسم كان لمن بيده السلطة والحكم حيث حكم على بن يوسف بالإعدام في مرتين غيابيا في سنة 1958 و سنة 1959 بما يعني أن قرار قتل بن يوسف قد اتخذه بورقيبة من خلال هذين الحكمين لإسباغ عملية القتل الصيغة الشرعية، وأن عملية التصفية التي حصلت يوم 12 أوت 1961 من طرف المجموعة التي انتقلت إلى ألمانيا ونفذت العملية بعد عملية الاستدراج التي تعرض لها بن يوسف في نزل الرويال بفرانكفورت كانت في إطار تنفيذ حكم المحكمة القاضي بالإعدام..
الجديد في شهادة علي الشابي حول حادثة اغتيال صالح بن يوسف على أيدي خلية أو مجموعة تم تجنيدها بأمر من بورقيبة في ذكره لأسماء لم ترد ضمن القائمة المشتبه أنها هي من توّلت عملية التخطيط والرصد والاستدراج والتنفيذ، فعلى خلاف ما هو معروف والذي تناولته القضية المرفوعة أمام هيئة الحقيقة والكرامة وباشر القضاء التونسي النظر فيها منذ سنة 2016 والتي وُجهت فيها التهمة إلى 6 أشخاص لا غير، وهم الرئيس الحبيب بورقية و حسن بن عبد العزيز الورداني أحد أبرز قادة المجاهدين ضد الاستعمار الفرنسي وكان مقرّبا من الرئيس بورقيبة والبشير زرق العيون ابن خالة صالح بن يوسف وكان يشغل منصب رئيس ديوان رئيس الجمهورية وعبد الله بن مبروك الورداني ومحمد بن خليفة محرز المنفذان المباشران لعملية القتل باستعمال مسدس كاتم الصوت خرجت منه رصاصة أصابته على مستوى الرأس وحميدة بن تربوت ابن أخت زرق العيون…
قائمة..
على خلاف هذه القائمة المعروفة المتداولة، يذكر علي الشابي أن الخلية المجندة تتكون من نواة صلبة تضم 18 فردا وليس 5 أفراد فقط التي انتقلت إلى ألمانيا والتي ينسب إليها التنفيذ ويذكر أسماء أخرى لم تشملها القائمة التي تناولتها هيئة الحقيقة والكرامة وهما ” الصادق حمزة و محمد حمادي الأخضر بالحاج الرزقي ” وهما إسمان يذكران لأول مرة ضمن المجموعة المكلفة بالاغتيال وأن العنصر الفاعل والمستدرج الرئيسي لبن يوسف حتى يذهب إلى النزل وايهامه بمجيء معارضين لترتيب عملية ضد نظام بورقيبة ليس كما تذكر الرواية المتداولة حميدة بن تربوت الذي توفي في شهر جويلية 2024 وإنما كان حسب شهادة علي الشابي ” محمد الأخضر بلحاج ” مدير جريدة الأخبار التي أسسها سنة 1953 بعد أن تحصل على مساعدة مالية من الحزب وكان إلى حد سنة 1956 يوسفيا وتم استقطابه من طرف وزير الداخلية آنذاك الطيب المهيري…
نفوذ واسع
هنا يأتي حديث علي الشابي في شهادته المثيرة وتركيزه الكبير على شخصية محورية لعبت دورا مؤثرا في عملية اغتيال صالح بن يوسف وهي شخصية الطيب المهيري الذي أوكلت إليه مهمة أساسية ورئيسية حين اختاره بورقيبة وعينه على رأس وزارة الداخلية هذه المهمة هي تصفية النهج اليوسفي والقضاء على اتباعه وإنهاء هذه الفتنة التي شغلت البلاد وقسمت الشعب ويحيل علي الشابي على كتاب ” على المعاوي ذكريات وخواطر ” الذي أورد فيه شهادة لمحمد القنوني عن قرار اغتيال صالح بن يوسف كان قد اتخذه بورقيبة في سنة 1955..
يذكر على الشابي أن الطيب المهيري كان رجلا قويا في الحكومة التي تشكلت سنة 1956 وكان له نفوذ واسع مما سمح له بوضع قبضته على الحزب والدولة وكان رقما صعبا في الحكم اكتسبه من قربه من زوجة الرئيس وسيلة بورقيبة وحمايتها له ومن الحظوة الكبيرة التي كانت له عند الرئيس بورقيبة عبّر عنها علي الشابي بلفظة ‘دلول’ حتى وصل به الأمر أن تحدى بورقيبة ورفض الانصياع إلى قراراته وخاصة لما قرر بورقيبة ابعاده بسبب عدم تمكنه من الكشف عن محاولة الانقلاب التي دبرت سنة 1962 وعارض هذا القرار ولم يقبل بالتنحية وتوجه إلى الرئيس بورقيبة قائلا له ” ما دمت أنت في الحكم فسأظل انا معك وزيرا للداخلية ” فتراجع بورقيبة عن قراره وتم إلصاق التقصير الأمني وإرجاعه إلى مدير الأمن إدريس قيقة الذي تمت إقالته واعفاؤه من مهامه ظلما وألحق بوزارة السياحة…
ويقول علي الشابي إن إبعاد الطيب المهيري عن السلطة والحكم وإنهاء سطوته لم يتحقق إلا بموته مسموما حسب ما أكده التقرير الطبي ونسبت الفعلة إلى أجهزة بورقيبة…
سنوات الرعب
ينهي علي الشابي هذه الشهادة المثيرة التي ذكرها في كتاب مذكراته بأنه حسب التقديرات فقد قتل في الفتنة البورقيبية اليوسفية نحو 1000 شخص بينما لم يقتل في الفترة الاستعمارية مثلها والتي امتدت من سنة 1881 إلى سنة 1955 أكثر من 4000 شخص هذا ما عدا الذين قتلوا في تلك الفتنة دون أن يدفنوا والذين دفنوا وهم أحياء..
وهكذا عرفت تونس سنوات من الرعب تواصلت 12 سنة من شهر أكتوبر 1955 إلى شهر جوان 1962 إذ تمت محاكمة نحو 2000 من اليوسفيين وقد سيطر الهلع وسادت الوشاية وطغى الزيف وغلبت الانتهازية وانخرمت منظومة القيم والأخلاق أيما انخرام، ولم تخف الوطأة إلا في سنة 1967 تحت وقع الحوادث التي عرفتها تونس قبل الهزيمة العربية من عدم قدرة الدولة على إحكام قبضتها بسبب التغيرات الحاصلة في السلطة والوهن الذي بدأ يسري في أوصالها تحت وقع الأزمات الكبرى التي أناخت عليها إلى أن جاء حدث 7 نوفمبر 1987…