صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب: رواية ‘تراب سخون لأميرة غنيم’..الحقيقة، التاريخ والمُتخيل..

slama
كتب: نوفل سلامة

رواية تراب سخون هي عمل أدبي جديد للكاتبة أميرة غنيم ينتمي إلى جنس الرواية التاريخية التي يختار صاحبها حقبة زمنية معينة وأحداث حقيقية حصلت في التاريخ ينطلق منها ليستلهم منها وقائع جديدة ومختلفة عن الحقيقة التاريخية…

ويدخل شيئا من التحوير والزيادة من خياله ويبني من خلالها حبكة و تسلسل أحداث تنتهي إلى سردية مختلفة عن السردية التاريخية كما كُتبت..
سردية تتداخل فيها الحقيقة التاريخية بخيال الكاتب وتخيلاته وربما قناعته وتصوراته للأحداث بالاعتماد على مرويات أخرى غير مكتوبة شفوية ومنقولة ومرجعية غير المرجعيات الرسمية.

كيف نصنفها؟

والسؤال المطروح هو كيف نصنف مثل هذه الأعمال الإبداعية؟ هل نعتبرها جنسا من الكتابة التاريخية؟ أم هي رواية تحكي التاريخ أم حكاية عن التاريخ وشخوصه؟ وما هو القدر المسموح به من إعمال الخيال والمتخيل حتى لا نسقط في تحريف التاريخ؟
وهل يمكن في كتابة الرواية التي تقوم على أحداث وأبطال حقيقيين أن نزيد عما هو معروف تاريخيا وننسب أفعال وأعمال من وحي خيال الكاتب ونخلق وقائع متوهمة غير موجودة؟

حدود الخيال

ما هو حدود الخيال في الكتابة عن التاريخ وأحداثه وشخوصه؟ وفي هذا المستوى ما قيمة المصادر والمراجع في مثل هذه الكتابات التاريخية في ترسيخ سردية سوف تتحول مع الوقت إلى تاريخ آخر الى جانب التاريخ المكتوب؟
الخوف الذي يعترضنا في مثل هذه الأعمال حينما يمتزج الخيال والمتخيل بالحقيقة التاريخية أن يتحول العمل الأدبي إلى مرجع لمعرفة التاريخ والحكم عليه، وأن تتحول الرواية الأدبية إلى الوثيقة التي يمكن الوثوق بها و نعتمد عليها للحكم على التاريخ…

أخطاء تاريخية

ومن هنا نسمح لأنفسنا بالحديث عن حصول أخطاء تاريخية إذا ما اكتشفنا بأن الرواية قد تناولت وقائع تاريخية غير موجودة وجلبت لها شخوصا متوهمة وخرجت في سرد الأحداث عما هو مدون في المروية التاريخية كما حصل مع النص الروائي الذي تم الاعتماد عليه لإنتاج مسلسل “الحشاشين ” في علاقة بما حصل من تلاق بين الأصدقاء الثلاث حسن الصباح ونظام الملك وعمر الخيام حيث تعرض المسلسل إلى نقد كبير بخصوص المادة التاريخية التي اعتمد عليها وعدم صحة تلاقي الأصدقاء الثلاثة تاريخيا وخاصة التقاء عمر الخيام بحسن الصباح في نفس الفترة الزمنية وكذلك الصورة التي قدم بها عمر الخيام كشخصية سلبية غير مؤثرة في واقعها و شخصية غير مبالية بما يٌدوّن من حولها.

‘أبطال وأباطيل’

الإجابة التي قدمت حول ما وجه من انتقاد لعمل الحشاشين هي أن المخرج قد وضع عنوانا فرعيا إلى جانب العنوان الأصلي الحشاشين وهو “أبطال وأباطيل من وحي التاريخ” بما يعني أن النص قد كُتب من خلال تناول حقبة تاريخية معينة كانت هي الاطار لا غير لأحداث بنيت ضمنها أحداث وصورة فعل الخيال فيهما فعله وبالتالي فإن الكتابة التاريخية المقدمة للسينما ليس الغاية منها التوثيق ولا التأريخ ونفس الشيء بالنسبة للرواية الأدبية التي تعتمد التاريخ وتحتاج إلى الخيال فهي عمل يقتبس من التاريخ وينطلق من وقائع حقيقية ويُبنى على أحداث حصلت في التاريخ لكن هذه الكتابة تمنح الكاتب مساحة من الحرية للتوسع وهنا يكون الابداع…
فالرواية تنطلق من أحداث معينة قد تكون حصلت في التاريخ ولكنها تحوم حولها ولا تنقلها كاملة كما وردت في كتب التاريخ وبالتالي فهي ليست نقلا حرفيا للتاريخ.
الخطورة في مثل هذا التصور في كتابة الرواية الأدبية التي تعتمد على التاريخ وتحكي عنه فيما يحصل من خلط الواقع والحقيقة بالتخيل والتخمين خاصة لما يتعلق الأمر برموز مؤثرة في التاريخ وشخصيات مثلت الذاكرة الوطنية للشعب، لذلك فان فسح المجال للخيال حتى يفعل فعله ليتحرك بكل حرية ومن دون ضوابط تاريخية نتيجته حصول نوع من اللبس والاضطراب في الفهم وعدم جلاء الصورة والمشهد ويصبح المتخيل هو التاريخ والخيال هو الحقيقة والحقيقة التاريخية محل شك وتساؤل.

كتابة جديدة للتاريخ

تبرر أميرة غنيم اعتمادها على تقنية الخيال في كل رواياتها وروايتها الأخيرة ‘تراب سخون’ بأن الذي لا يكتبه التاريخ لا يعني أنه غير موجود، وهي بذلك تحاول البحث عن الأشياء التي لم يكتبها التاريخ لتحكي عنها وتبرزها بما يعني أن الكثير من حقائق التاريخ غير موجودة في المرويات الرسمية والتاريخ المكتوب وهي بهذا التمشي تحملنا إلى البحث عن مصادر أخرى للتعرّف عن التاريخ غير التاريخ الرسمي وبالتالي تدعونا الى كتابة جديدة للتاريخ.
رواية تراب سخون هي سردية مغايرة تقترحها أميرة غنيم عن شخصية وسيلة بن عمار الزوجة الثانية للرئيس الحبيب بورقيبة تروي فيها مغامرة امرأة من عالم السياسة تخوض تجربتها الأخيرة مع الزعيم، وهو في منفاه الأخير بعد الانقلاب الذي حصل له دعاها للقدوم إليه ليخبرها عن سر من أسراره الذي بقي دفينا عنده وأراد أن يخبرها به.
سيرة وسيلة بورقيبة في جانبه الغامض والخفي وغير المعلن و ذهابها متخفية إلى لقاء الرئيس بعد طلاقها منه، وهو جانب من جوانب حياتها حوله كلام كثير وبه يفسر طبيعة العلاقة التي كانت تجمعها بالرئيس.. قصة حب وغدر وتنكر…

رسائل وحوارات

المحمل المرجعي الذي اعتمدت عليه الكاتبة رسائل وحوارات كانت قد دارت بين وسيلة بن عمار والكاتبة جاكلين غاسبار وتضمنها كتابها الصادر في سنة 2012 مداره أسئلة دقيقة وجهت لزوجة الرئيس عن كامل حياتها منذ ولادتها، وحتى لقائها بالزعيم في محبسه الانفرادي و هي حوارات تروي فيها رؤيتها الخاصة للعالم وكل ما حصل وعايشته خلال فترة حكم الرئيس بورقيبة تبدأ من ذكريات الطفولة ومرورا بفترة الشباب حتى استوى عودها، مرورا بكل المواقف التي اتخذتها وكانت مؤثرة في كل الأحداث التي عايشتها…
آراء وأحاديث في السياسة والحكم وصراع السلطة وتجاذبات القصر
والديمقراطية وأيام الحركة الوطنية والعمل النقابي والعمل النسوي والكثير من الأحداث التي عرفتها البلاد وهي في سدة الحكم بجانب الرئيس بورقيبة تقاسمه شواغله وهمومه وما حصل لها من تقلبات علاقتها به…

اميرة غنيم في تراب سخون لا تعيد الحديث عن كل ما جاء في حوار وسيلة عمار بـ جاكلين وانما أخذت من أحداث الزيارة التي قامت بها الماجدة إلى الزعيم وبطلب منه وهو في منفاه بعد 7 نوفمبر 1987 لتنسج منها سردية وحكاية أخرى عن هذه المرأة التي شغلت الناس وملأت الدنيا ضجيجا وصخبا وإشاعات وحقيقة.

حكاية غير معهودة

شخصية وسيلة بورقيبة في ‘تراب سخون’ هي غير تلك التي رسمتها كتب التاريخ الرسمية وقدمتها جاكلين غاسبار في حوارها، لقد حاولت أميرة غنيم في روايتها أن تقدم صورة مختلفة عن زوجة الرئيس الحبيب بورقيبة تبعدها قليلا عن الشخصية التاريخية كما عُرفت بها وهي قريبة من عالم السياسة وأجواء الحكم لتقحمها في عالم متخيل تصورته الكاتبة من وحي خيالها ومما اطلعت عليه ووصل إليها من معلومات وهي تقترح على القارئ فضاء آخر غير مألوف وحكاية غير معهودة تلامس الحياة اليومية والعادية والجوانب غير المعروفة من شخصيتها كإمراة من عامة الشعب تعيش يومها كما تعيشه أي امرأة تونسية أخرى بكل تفاعلاتها من خلال استعمال اللهجة العامية والأحاديث المألوفة في البيوت التونسية والعلاقات العادية.
رواية ‘تراب سخون’ استعادت بها أميرة غنيم حياة زوجة الرئيس الحبيب بورقيبة وتاريخها المليء بالخيبات والنجاحات وسردية قدمتها في صورة مختلفة عما هو معروف عنها وكشفت عن أسرار وحقائق لم يذكرها التاريخ في محاولة لتقديم صورة عنها تقربها من الشخصية الحقيقية لـ وسيلة بن عمار لا كما نقلتها المرويات الشعبية وما تناقلته الصحف وما خرج من أفواه السياسيين الذين عاشروها واقتربوا منها.

فهل استطاع المتخيل الروائي لأميرة غنيم أن يقول الحقيقة كاملة عن امرأة كانت سيدة القصر في زمانها؟ أم أنها وقعت في الزيف والخيال وانحرفت عن التاريخ والحقيقة؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى