صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب: رؤية الفيلسوف الفقيه أبو حامد الغزالي لمشكلة الفقر…3 حِرف خسيسة

slama
كتب: نوفل سلامة

موضوع الفقر من المواضيع القديمة التي لا تنفك تُعاد كل مرة، والتي لازمت البشرية منذ أن اكتشفت العمل الذي تحول إلى وسيلة للارتزاق وتوفير المال اللازم لشراء الحاجيات والمستلزمات الحياتية…

وقضية لا تزال تثير الكثير من الحرج للدول والحكومات التي لم تجد لها حلولا جذرية نهائية، وهو حديث يتنزل ضمن خيارات النظام الاقتصادي المتبع ومنوال التنمية المختار وهاجس مرتبط بالنشاط الإنساني في علاقته باكتساب الثروة وإنتاجها وتبادلها وتوزيعها التوزيع العادل…

العدل في المجتمعات

كما أنه إشكالية لها رابط مباشر بقواعد إقامة العدل في المجتمع وكيفية الاستفادة من الثروة الوطنية والمال العام بما يحقق التوازن بين حرية الفرد في العمل وكسب الثروة ومصلحة المجموعة من الاستفادة مما يقع انتاجه، وهو في الأخير موضوع له علاقة بموروثنا الديني وثقافتنا الإسلامية التي جاءت ضامنة لرعاية حقوق الفقراء وضمان حاجياتهم وصيانة كرامتهم صونا لهم من الوقوع في وضع المهانة وحالة الضعف والعجز المؤدي الى الاذلال والخضوع بمعناه النفسي والاقتصادي والسياسي…

مقاربات في الغرب

وبالرجوع الى تاريخ الأفكار نجد أن موضوع الفقر قد تمت معالجته وتأصيله وفق رؤية و مرجعية غربية ومن خلال المركزية الأوروبية في المعرفة ومن خلال ما أنتجه العقل الغربي وحداثته التي احتكرت لوحدها أحقية الفهم وبسط المعنى وإيجاد الحلول لمشكلات الإنسان، وقدم مفكروها مقاربات للمعالجة مؤسسة على ما أنتجه العقل الأوروبي وما نظّر له الفلاسفة الغربيين و اقترحوه من حلول تبنتها مراكز البحث الغربية وقدمتها للعالم على أنها هي ‘الحلول المثلى’ التي وجب إتباعها من دون أي إشارة لاي جهد إنساني آخر، وتم اقصاء مثقفي ومفكري العوالم الأخرى وخاصة ما انتجه عقل شعوب عالم الجنوب من أفكار ورؤى لمشكلة الفقر وكل مشكلة أخرى.

ومن أجل كسر هذه الرؤية الغربية وفك الارتباط مع هيمنة المعرفة الغربية والمركزية الأوروبية في الفكر والثقافة وإبراز أن في ثقافتنا وفكرنا العربي الإسلامي ما يصلح للفهم وتأصيل مختلف القضايا، وفي الجذور ما يفيد لإنتاج المعاني وما يساعد على إيجاد الحلول لمختلف مشاكلنا وفي موضوع الفقر الذي نحن بصدد الحديث عنه نستعين بنص من القرن الخامس هجري و الحادي عشر ميلادي للفيلسوف والفقيه أبو حامد الغزالي ( 450 هـ / 1058 م ) من كتابه الشهير ‘إحياء علوم الدين’ تناول فيه المسألة الاجتماعية وحلّل ظاهرة الفقر وما يترتب عنها من مظاهر مرضية تتعب المجتمع من تنامي الاجرام والاعتداء على الأملاك ومن شحاذة وتسول وظهور فئة اجتماعية تعيش من الشعوذة وترويج السحر وهي سلوكيات تحولت في مجتمعاتنا المعاصرة إلى مهن وشبكات منظمة.

ربط العلم بالمعرفة

يقول الغزالي إن المعيشة لا تنتظم والحياة لا تتواصل إلا بتوفر العمل و ووجود الحرف والصنائع، لذلك فقد خصص في إحيائه في باب ذم الدنيا حديثا عن أنواع هذه المهن وصورها وذكر أن بعض الحرف لا يمكن مباشرتها والتوصل إليها إلا بالتعلم وهو بذلك يربط العمل بالمعرفة، ويشير إلى أن بعض الصنائع والحرف لا يمكن اكتسابها إلا بالتدرب عليها وهو بذلك يفتح بابا ومجالا للتفكير في برامج لتعليم المهن والحرف التي يحتاجها المجتمع، وهو ما يعرف اليوم بربط الجامعات والتعليم بسوق الشغل وما يطلبه الاقتصاد المعاصر وبهذا يكون قد سبق غيره من المعاصرين في اعتبار أن الكثير من المهن تحتاج إلى تعلم ودراية نظرية، وأن الكثير من الصناعات تتطلب توفر معرفة وقدرات ومعارف نظرية لا يمكن أن تتوفر من دون تعلمها.
ولكنه بعد التأكيد على هذه الحقيقة يشير إلى أن الكثير من الناس يغفلون عن تعلم الصنائع أو تعلم الحرف في الصغر ويهملون ذلك منذ الصبا لأسباب كثيرة تمنعهم عن ذلك، وتحول بينهم وبين اكتسابهم مهنة تضمن لهم انتظام العيش الذي هو غاية كل إنسان فينتج عن ذلك وقوع المرء في حالة من العجز عن الكسب وتوفير المال لفقدانه العمل أو كما يقول لعجزه عن الحرف وهنا تنتج حسب الغزالي وضعية اجتماعية جديدة، وهي حاجة هذا العاجز عن العمل إلى العيش وتوفير الغذاء الضروري للبقاء على قيد الحياة من خلال الاعتماد على الغير والاتكاء على الآخرين الذين يتوفر لهم المال من وراء امتهانهم مهنة أو حرفة أو كما يقول الغزالي ‘يحتاج أن يأكل مما يسعى فيه غيره’…

3 ظواهر اجتماعية خطيرة

هذه الوضعية الاجتماعية الجديدة التي تنتجها البطالة والفقر وهذا العجز عن الارتزاق لغياب العمل يفرز ثلاثة ظواهر اجتماعية خطيرة، أو كما يصنفها الغزالي بالحِرف الخسيسة الأولى ظاهرة اللصوصية والثانية ظاهرة الكدية والشحاذة والثالثة ظاهرة الشعوذة والتنجيم والجامع بينها أن أفرادها يعيشون ويأكلون من سعي غيرهم، ولما كانت هذه الظواهر مستهجنة في المجتمع الإسلامي ولا يقبل بأفرادها داخل المجموعة فقد استنبطت اللصوصية والشحاذة والشعوذة حيلا لاستمالة الناس وجبر بعضهم على الإنفاق عليهم.
يقول الغزالي أما اللصوصية فقد كوّنت جماعة لها أصبح لها شوكة وقوة تخيف الناس منهم وبدؤوا في قطع الطرق وسلب الناس أموالهم، ومن هذه العصابة المنظمة خرج فريق آخر من اللصوص تخصص في سرقة المنازل وتسلق الجدران وانتهاز الغفلة وكل ما تنتجه الحيلة والأفكار المستنبطة.
اما المكدي والشحاذ فانه يرفض السعي والعمل كما يفعل عامة الناس، ولا يريد أن يتعب ويسعى في طلب الرزق وخيّر التسول ولما خيّر بعض الأفراد البطالة على العمل رفض الناس اعطائهم المال، عندها لجأ هؤلاء إلى استعمال الحيل لتحريك المشاعر نحوهم والعطف على حالهم فاستعملوا الحيل والتعلل بالعجز الحقيقي أو العجز الكاذب فظهرت جماعة من المتسولين تتظاهر بالمرض والعمى والتجانن واستعانوا بالرضع والأطفال الصغار وإظهار العاهات واستعملوا الأقوال والأشعار والدعاء لجلب الرحمة إليهم وترقيق القلوب لمشاهدتهم واكساب تسولهم استحقاقا وشرعية.
وأدخل الغزالي مع اللصوص والشحاذين أصحاب الشعوذة والدجالين والعرافين ومدعي علم الغيب من المنجمين وأصحاب القرعة والفأل الذين يتجهون إلى العوام والسذج، وعدّ هذا التصرف نوعا من الكدية والشحاذة حينما يتم التحايل على الناس للحصول على أموالهم من خلال ادعاء معرفة المستقبل وقراءة الأحوال.

أصل المشكل

هذا النص الذي أتينا على جانب منه والذي يعود إلى القرن الخامس هجري يعالج مبكرا وبصفة دقيقة ومنهجية و قبل فلاسفة الغرب الذين تنسب إليهم النظريات والمقاربات في معالجة مختلف مشاكل العصر الراهن، يعالج قضية من أخطر القضايا المعاصرة التي أرهقت الدول والحكومات وهي البطالة والفقر والشعوذة ويتعرض إلى أصل المشكل وهو فقدان العمل وضرورة السعي في الأرض وضرورة البحث عن شغل، ولكن مع ذلك يُنبّه الغزالي إلى أهمية توفير المهن والحرف والصنائع لانتظام العيش والإبقاء على الحياة أو ما نعبر عنه في زمننا بتحقيق الكرامة وانسانية الإنسان مع ربط التعلم بالعمل وهي إشارة مبكرة من هذا المفكر الذي تفطن إلى التلازم والترابط بين العمل واكتساب الحرف والصنائع مع العلم واكتساب القدرات النظرية .
والأهم من ذلك ما قام به الغزالي من تأصيل لفكرة اللصوصية والشحاذة والشعوذة كظواهر مرضية من أمراض المجتمع المسلم في زمانه وعدها مهنا وضيعة هجينة لا تستحق الإعانة والتضامن الاجتماعي تقوم على ترك العمل والسعي والتحايل والخداع وكسب عطف الناس، واعتبر أن الأصل في كرامة الإنسان هو العمل وتوفير الصنائع والحرف والمهن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى