صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب: خيار الدولة الاجتماعية هي معركة تحرير متواصلة واستحضار للحظة بناء دولة الاستقلال

slama
كتب: نوفل سلامة

في الوقت الذي كانت فيه المسارات العالمية تتجه نحو المزيد من إقصاء الدولة عن المجتمع وتخليها عن مهامها وأدوارها التقليدية التاريخية، وتدعو فيه كتابات المفكرين الغربيين إلى دعوة الدولة إلى التحرر من الكثير من التزاماتها الاجتماعية المرهقة والمكلفة ماديا..

بالاضافة إلى دعوات فك ارتباط الدولة مع جملة من التحملات التي عُرفت بها وقامت عليها في علاقة بحاجة المواطن إلى تدخل الدولة في حياته وحمايتها له لتأمين معيشته و الكثير من حاجياته الأساسية اليومية..

أدوار للقطاع الخاص

وفي الوقت الذي كان فيه الفكر الاقتصادي الحديث يركز بكثافة على إعطاء أدوار إضافية للقطاع الخاص في عملية التنمية وتأمين الخدمات والسلع وإحلاله محل الدولة في الكثير من المجالات الحيوية في الميادين الاقتصادية، وإعطائه مهمة تأمين الكثير من الحاجيات الاجتماعية للمواطنين وحصر نشاط الدولة الأساسي في تأمين عدد قليل من الخدمات لا غير…
بل ظهرت دعوات إلى حصر دور الدولة الرئيسي في مجال الأمن لا غير من توفير الأمن الداخلي والخارجي للشعب وتشريك الخواص في باقي المجالات التي عُرفت بها الدولة من صحة وتعليم ونقل وسكن…
ليتحول دورها في النهاية وتصبح مهمتها الأساسية منحصرة في الجوانب الأمنية الصرفة من مقاومة الجريمة بكل أنواعها وتوفير السلامة للأفراد في تنقلاتهم ومنازلهم وحياتهم الشخصية لا غير، وهكذا تفقد الدولة دورها الاجتماعي الذي قامت عليه وتتخلى على أهم ميزة عرفت بها تاريخيا كونها دولة حامية وحاضنة وراعية وقائمة على شرط توفير الخدمات الاجتماعية وتوفير كل ما يحتاجه المواطن من حاجيات أساسية و ضرورية لحياته ودوام بقائه حيا من غذاء وتعليم وصحة ونقل وشغل وسكن وبيئة وكل ما له صلة بالكرامة الإنسانية…

توجهات خطيرة

في هذا الوقت الذي خلنا فيه أن العالم يسير نحو التقليل من تدخل الدولة في المجال الاجتماعي و إقرار مفهوم جديد لها ومهام مختلفة تختص بها بعد هيمنة النظرية الليبرالية في الاقتصاد المتحررة من كل القيود والتي وصفت بـ المتوحشة والتي اقرت التخلي عن الدور الاجتماعي للدولة، تعرف الانسانية عودة كبيرة عن هذا المسار فرضها ما عرفه العالم من انتشار جائحة كوفيد 19 وما حصل بسببها من تداعيات خطيرة على حياة الانسان…
وما نتج عنها من خسائر غير متوقعة كشفت عن ضعف الدولة وهشاشة هياكلها في المجال الاقتصادي والصحي ومجال العمل والمجال الاجتماعي عموما جعل العالم يستفيق على خطورة توجهاته، ويعيد النظر في خياراته ويراجع منظومته الفكرية في النظرة إلى الدولة ويعيد النقاش العالمي حول أهمية دورها الاجتماعي الذي نجد له صدى واضحا في بلادنا وكان له انعكاس واضح في خطاب السلطة القائمة اليوم…

خيار استراتيجي

حيث لاحظنا تواتر الحديث عن استعادة الدولة لدورها الاجتماعي الذي فقدته سواء في حديث رئيس الدولة قيس سعيد أو رئيس الحكومة كمال المدوري وتكثف هذا الخطاب عن مركزية المسألة الاجتماعية في مفهوم الدولة وسياساتها وخياراتها في كل خروج إعلامي لهما، واعتبار دور الدولة الاجتماعي قد أصبح اليوم خيارا استراتيجيا ترجمته الفعلية في برامج وسياسات عمومية وخطط مفصلة سوف يُفصح عنها خلال السنوات الخمس القادم…
أحد مداخلها اليوم ما تم رصده في ميزانية سنة 2025 من اعتمادات لفائدة هذا الهدف لإكساء هذا الخطاب السياسي الطابع الواقعي حتى لا يبقى مجرد شعارات خطوطه العريضة نجده في قرار القضاء على كل اشكال التشغيل الهش وفي الترفيع في الاعتمادات المخصصة للتحويلات الاجتماعية والحفاظ على منظومة الدعم الترفيع في عدد العائلات محدودة الدخل والترفيع في المبالغ المُسندة إليهم من منح للطلبة والإعانات المدرسية والجامعية، والتخفيض من الضرائب على أصحاب الدخل المحدود…

ضرب الليبرالية المتوحشة

إن فكرة الدولة الاجتماعية هي شعار كان قد رفعه الرئيس قيس سعيد منذ سنة 2019 في محاولة للحد من سيطرة الليبرالية المتوحشة والتوقف عن تطبيق الاملاءات وشروط صندوق النقد الدولي في برنامج القروض الذي كان معدا لتونس لمواصلة نهج الهيمنة والتدخل في القرار السياسي..
وهو برنامج كما هو معلوم هدفه التفريط في كل المكاسب الاجتماعية التي تحققت للمواطن التونسي وإجبار الدولة على رفع يدها عن دورها الحمائي للمواطن، وهي استراتيجية تقوم على تلازمية خطيرة ‘إما صندوق النقد الدولي وإما الإفلاس و الذهاب إلى نادي باريس’…
ولكن رئيس الدولة خيّر الذهاب إلى خيار آخر وهو التعويل على الذات للحد من تدخل هذه الأجهزة العالمية المتحكمة والحد من نزيف الديون الثقيلة مع العمل على ضمان حد أدنى من استمرار الدولة في رعاية دورها الاجتماعي وفق الإمكانيات المتاحة كان يقول:’إن الدولة التونسية لن تتخلى عن دورها الاجتماعي لأن الفقراء والبؤساء في تونس هم الذين قاموا بالثورة وانتفضوا ضد الظلم والاستبداد وأن الإرادة مستمرة وثابتة من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية المنشودة وإعادة بناء المرافق الأساسية التي يحتاجها كل مواطن بعد أن تعطلت’…

خيارات فاشلة

وحول أسباب هذا التراجع في تقديم الدور الاجتماعي وتخلي الدولة عن الاضطلاع بمهامها يعتبر قيس سعيد أن عديد الخيارات الفاشلة التي طُبقت لأكثر من ثلاث عقود هي التي أدت إلى هذه الأوضاع وأن الحل يكمن في استرجاع الدولة لدورها الاجتماعي مع مواصلة الحرب على الفساد…

حرب التحرير

المقاربة التي يقدمها رئيس الدولة لاستعادة الدولة دورها الاجتماعي الذي ما زال الشعب في حاجة إليه وفي حاجة إلى تواجد الدولة إلى جانبه تقوم على فكرة أن تبنّي هذا الخيار يأتي في سياق ما يُعتبر استكمالا لحرب التحرير التي لم تُستكمل بعد وتحقيق الاستقلال الحقيقي الذي لن يتحقق إلا بفك الارتباط والتحرر بالكامل من بقايا الاستعمار القديم والجديد المتمثلة في جانب منها في هذه المؤسسات المالية التي تتحكم في رقاب الدول والحكومات بما تفرضه من شروط واملاءات ووصايا مقابل الأموال التي تُقرضها..
وبما تقوم به من تدخل لرسم السياسات والقرارات والخيارات وهي مقاربة تأتي كذلك في سياق ما يعتبره رئيس الدولة استحضارا للحظة التاريخية لبناء الدولة الوطنية ودولة الاستقلال التي قامت على فكرة الوحدة الوطنية والمصلحة المشتركة للشعب والتعويل على الذات و السير وراء مشروع وطني جامع يقدم المصلحة الوطنية على كل مصلحة في قطيعة كاملة مع مراكز النفوذ واللوبيات وشبكات الفساد الداخلية والخارجية التي تعمل على الإضرار بالدولة وبالشعب وعلى مواصلة ودوام حضور الأجنبي والجهات التي تريد التحكم في القرار الوطني والسيادة الوطنية وجعلها مرتهنة على الدوام إلى جهات أجنبية…

استرجاع الثقة

أهمية هذا الخيار بقطر النظر على طابعه السياسي وأهميته لمن يحكم اليوم فإن قيمته تكمن في ما سينجر عنه من مصالحة تاريخية بين الشعب والدولة وارجاع الثقة للكثير من الشباب الغاضب والكثير من أبناء الشعب الذي يأسره اليأس ويكبله العجز من تغيير الحال وفك ارتباطه وحتى انتمائه الوطني وخير البحث عن مستقبل وحلم آخر خارج حل الدولة وفي عالم بلدان ما وراء البحار واستعادة الشباب ثقته في نفسه واستعادة المواطن الثقة في المرفق العمومي…

خيار ثقيل جدا

المشكل في هذا الخيار الذي يعيد للدولة دورها الاجتماعي في مجالات حساسّة في قطاع الصحة والتعليم والنقل والأمن هو خيار ثقيل جدا من الناحية المالية وله كلفة مادية معتبرة في وقت تحتاج فيه الدولة إلى موارد كبرى لتحقيقه، وهي في الظرف الحالي غير قادرة على الزيادة في مواردها إلا بالاعتماد على الترفيع في نسق الاستثمار العمومي والخاص الوطني والدولي ما يدعو إلى إعادة النظر في رؤيتنا للاستثمار من حيث التحفيز والإجراءات ومن حيث تحرير المبادرة الفردية الاقتصادية من أجل خلق الثروة وتحقيق العدالة القطاعية الاقتصادية كإعطاء الأولية لقطاع الفلاحة في الدعم الحكومي والتعويل عليه لتحقيق نهضة وتقدم منشوديْن وتنمية الجهات الداخلية بما يجعلها على قدر المستوى مع جهات الساحل ومع مدن العاصمة وضمان الحق في العمل والحق في الحصول على أجر لائق بالمواطن، وحق العاطل وكل من ليس له عمل في مساعدة مادية واجتماعية من الدولة والحق في الاستقرار داخل الوطن والحصول على الحد الأدنى ليجعله يشعر بالأمان والحياة الكريمة التي تغنيه على الهجرة ومغادرة الوطن بحثا على واقع أفضل…وهذا كله يحتاج إلى فكر جديد بل وإلى أفكار جديدة حسب نظرة رئيس الدولة قيس سعيد..

الإحراج الكبير في هذا الخيار الاستراتيجي في ترجمة هذا البعد الاجتماعي للدولة الذي نجده حاضرا بكثافة في فكر وحديث رئيس الدولة على أرض الواقع في ظل تواصل الضغوط الاقتصادية وقلة الموارد المالية لميزانية الدولة وفي ظل صعوبة مزيد اثقال كاهل المواطن والموظف بالأداءات الجبائية، وفي ظل انحسار خيارات أخرى لتعبئة خزينة الدولة بعد أن قررنا التخلي على الدعم المالي الخارجي وتخلينا عن الاقتراض من المؤسسات المالية العالمية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى