نوفل سلامة يكتب/ حزب العمال: سنُنهي الفوضى ونعيد بناء بريطانيا من جديد..

كتب: نوفل سلامة
جاءت نتائج الانتخابات البرلمانية البريطانية الأخيرة التي أجريت يوم الخميس 5 جويلية الجاري كما كان متوقعا لها ومنتظرا بـ إعلان فوز حزب العمال المصنف ضمن أحزاب يسار الوسط…
وبذلك تكون قد أنهت أربع عشر سنة من حكم حزب المحافظين الذي مُني بهزيمة تاريخية قاسية بعد أن عاقبه الشعب البريطاني نتيجة سياساته التي رأى فيها الناخب البريطاني أنها لا تخدم مصالحه ولا تعبر عن شواغله وما يطالب به، وخاصة رؤيته للعالم و السياقات التي تحكم هذا العالم وتحركه ورأى فيه أنه لم يكن مدافعا بما فيه الكفاية وبالقدر المطلوب عن هويته وقوميته و وطنيته وكل ما له صلة بخدمة أبناء البلد الأصليين.
صعود الشعبوية
وفوز حزب العمال يأتي في سياق عالمي يشهد صعود الأحزاب الشعبوية والتيارات ذات التوجه القومي ونزعات الوطنية والأحزاب التي تعد بالدفاع عن الهوية بما هي استعادة للسيادة الوطنية ونقاوة العرق والعودة إلى الجذور التي تمثل وحدة الشعب وتشكل خصوصيته…
ومن هذه الهوية استعادة مكانة الكنيسة في الحياة العامة والدين المسيحي الذي تراجع حضوره كثيرا في الحياة والفضاءات العامة نتيجة نزعة الحداثة والعلمنة التي خضعت لها الشعوب الأوروبية ومنها الشعب البريطاني، وخاصة تمدد الدين الإسلامي وانتشاره المتواصل رغم كل حملات التخويف منه والترهيب من خطره…
أفضل عرض انتخابي
الشعب البريطاني انتخب الحزب الذي قدم له أفضل عرض انتخابي، ومضمون سياسي واجتماعي واقتصادي ومال إلى الجهة التي رأى فيها أنها تمثله وقادرة أكثر من غيرها أن تدافع عن مصالحه…
ومال إلى الحزب الذي يعبر عن قلقه المتزايد من مصاعب الحياة وأنهى حكم حزب المحافظين الذي اعتقد يوما أنه يمثله ورأى فيه صورته كشعب محافظ متمسك بهويته و متشبث بعاداته وثقافته التي ورثها عن أسلافه السابقين، والتي تميز بها عن سائر شعوب العالم فإذا به يكتشف أن حزب المحافظين منخرط في منظومة العولمة التي تقودها وتتحكم فيها الولايات المتحدة الأمريكية..
وحزب فرط في سيادة بلده و حقوق الشعب بعد خضوعه بالكامل إلى سياسات الاتحاد الأوروبي المكبلة وخياراته التي أضرت كثيرا ببريطانيا في موضوع الانخراط في الحرب الروسية ـ الأوكرانية والحرب في غزة بإعلان مناصرة عمياء وغير مشروطة للكيان الإسرائيلي الغاصب.
عاقب المحافظين
الشعب البريطاني عاقب المحافظين وانتصر لليسار العمالي في موقف فيه رفض وتمرد على خيارات الحكومة وسياساتها التي أضرت بحاضر ومستقبل الشعب البريطاني، وخاصة في موضوع السياسات الأوروبية المتعلقة بالهجرة التي اغرقت البلاد بالأجانب من ذوي البشرة السوداء القادمين من بلدان القارة الإفريقية الفارين من بلدانهم بحثا عن حياة ومستقبل أفضل في بريطانيا…
وهو واقع جديد رأى فيه البريطانيون خطأ تاريخيا وسياسيا كبيرا ارتداداته وتداعياته سوف تكون خطيرة على التركيبة السكانية لأوروبا عموما وبريطانيا خصوصا بعد أن يكتسح المهاجرون البلاد ويحتلوا المواقع والوظائف على حساب أبناء البلد.
تحولات كبرى
المشهد هو نفسه يتكرر في بريطانيا بعد أن ظهر في بلدان أوروبية أخرى والواقع نفسه نجده اليوم في بريطانيا ووجدانه منذ فترة في دول غربية أخرى يعبر عن حقيقة يصعب أن يستوعبها العقل الأوروبي المتعالي بحداثته والمفتون بعصر أنواره والمنبهر بمنظومة حقوقه وحرياته الكونية وما وصل إليه من تفوق في كل المجالات، هذه الحقيقة التي عبرت عنها بقوة وبكل وضوح انتخابات بريطانيا وعبرت عنها الحملة الانتخابية الفرنسية هي أن الشعوب اليوم وأمام التحولات الكبرى التي يشهدها العالم والتغيرات العميقة في الفكر والمعرفة ومساءلة القناعات والثوابت الغربية وحالة الوعي التي وصل إليها الأفراد بزيف هذه الحضارة الغربية وما تعيشه من فوضى وخاصة فوضى المثلية وانتشار المخدرات وأسواق النخاسة التي تباع فيها المرأة ونفاق معرفتها وخداع منظوماتها، لم تعد تثق كثيرا في الأيديولوجيات ولم تعد تميل إلى الأحزاب التقليدية ذات المرجعيات العقائدية المغلقة والفكر المؤدلج المقولب والمحكوم بنظريات تحررية حقوقية أو حداثية، ولم تعد تثق كثيرا في الخطابات التي تقدم منظومة الحقوق والحريات الكونية العالمية على حساب الهوية والخصوصية وكل ما هو ذاتي وتاريخي وثقافي محلي…
زلزال كبير
اليوم تعرف بريطانيا زلزالا كبيرا بإزاحة حزب المحافظين عن الحكم وفوز حزب العمال المعارض وتحصله على أغلبية المقاعد في البرلمان وهو تحول يأتي في سياق ما شهده البرلمان الأوروبي منذ أسابع قليلة بصعود الأحزاب الشعبوية القومية على حساب الكتل التقليدية الأخرى وفي سياق ما تعرفه أوروبا من تقدم الأحزاب اليمينية المتطرف وتصدرها نوايا التصويت وسياق ما يشهده العالم من تخلي الشعوب عن الأحزاب التقليدية لصالح الأحزاب القومية المدافعة عن المصالح الداخلية للشعوب لا غير. وتصويت الشعب البريطاني لصالح حزب العمال اليساري لم يأت من منطلق أيديولوجي حزبي ولا من وراء انتماء فكري عقائدي وإنما لأن هذا الحزب قد قدم عرضا للبريطانيين وبرنامج حكم ووعود انتخابية تعبر عما يقلق الفرد البريطاني ويبحث عنه ويطالب به.
لم يتحدث حزب العمال عن الحريات ولا عن الديمقراطية ولا عن العودة إلى الاتحاد الأوروبي ولا عن مساندة أوروبا في موقفها منال حرب الأوكرانية الروسية وإنما خطابه كان برنامجا متكاملا يعد فيه الشعب بمعالجة أكبر مشكلة تعترضه و هي الرعاية الصحية وتدني الخدمات الصحية التي لم تتحسن في فترة حكم المحافظين، وعد بمعالجة هذه المعضلة التي تؤرق الشعب البريطاني وخاصة صعوبة الولوج إلى الخدمات الصحية و الحصول على خدمة طبية جيدة في المستشفيات نتيجة قلة الإطار الطبي وارتفاع كلفتها.
تحسين الرواتب
ما وعد به حزب العمال هو تحسين رواتب الموظفين في القطاع الصحي ودفع رواتب إضافية للعاملين به لساعات إضافية بما في ذلك العمل في العطل وأيام الراحة الأسبوعية ووعد بالتوقف عن الاعتماد على العمال الأجانب في بعض أجزاء الاقتصاد بإنشاء خطط جديدة لتدريب العمالة المحلية في مجالات الصحة والرعاية الاجتماعية والبناء والتخفيض من تواجد المهاجرين إلى معدلات دنيا مع وضع خطة صارمة لمنع القادمين إلى بريطانيا عبر زوارق بحرية و بطرق غير شرعية ومحاربة شبكات الهجرة السرية.
وفي مجال تحسين المعيشة والمحافظة على المقدرة الشرائية التي كانت محل سخط على حزب المحافظين المغادر والمتهم بأنه لم يفعل شيئا لتحسينها فقد وعد حزب العمال بعدم الزيادة في الضرائب والمحافظة عليها منخفضة قدر الإمكان والالتزام باتخاذ إجراءات جديدة لمعالجة ظاهرة التهرب الضريبي وتحقيق عدالة جبائية حتى لا يثقل كاهل الطبقة المتوسطة والفقيرة بالضرائب وحتى لا تتحمل هذه الفئات لوحدها عبء توفير الأموال اللازمة للخزينة العامة…
وفي هذا السياق من الوعود الجبائية فقد وعد بإقرار ضريبة خاصة توظف على المدارس الخاصة باعتبارهم يحصلون على أموال طائلة من العائلات التي تدفع مقابلا ماليا لتعليم أبنائهم في حين لا تدفع هذه المدارس ما يجب عليها من ضرائب بعنوان القيمة المضافة، وفي مجال التعليم وعد حزب العمال بإيلاء اهتمام وعناية أكبر للتربية والتعليم وبتوظيف 6500 مدرس جديد في المواد الرئيسية لإعداد الأطفال للحياة والعمل في المستقبل مقابل رواتب محترمة توفر لهم العيش الكريم.
لا بد من التغيير
هذه بعض الوعود الانتخابية التي جاءت في البرنامج الانتخابي لحزب العمال البريطاني وهي وعود جعلت الشعب البريطاني يميل بها إلى هذا الحزب ويتخلى عن المحافظين وهي كلها وعود تهم الشأن الداخلي وتعالج قضايا محلية وتهتم بمعيشة وحياة ومستقبل الشعب البريطاني ورغم أن هذا الشعب يحدوه شعور خفي وخوف غير معلن من تخلفها ومن عدم الالتزام بتطبيقها إلا أن جانبا كبيرا من الناخبين قد صرح بأن التفاؤل ضئيل بتحسين الأحوال إلا أنهم يقرون في نفس الوقت أنه لا بد من التغيير، ولا بد أن نغيّر السياسيين وأن نعطى فرصة لمن قدم أفضل عرض انتخابي، ولمن اقنع الناخبين بالوقوف إلى جانبه وتبني مطالبه فالشعب البريطاني في هذه الانتخابات يريد تغيير واقعه ويتطلع إلى أفق أخرى وواقع مغاير.
صرح رئيس حزب العمال ” كير ستامر” المرشح لتولي رئاسة الحكومة أثناء حملته الانتخابية وحتى بعد فوزه بأن الوقت قد حان لتغيير بريطانيا والظروف تسمح بالبدء في البناء الجديد، وأنه بالإمكان اليوم أن نوقف كل الفوضى التي تسببت فيها سياسات الاتحاد الأوروبي وأن نجعل مهمتنا الأولى هي التجديد الوطني وإعادة بناء بريطانيا وإيقاف الفوضى التي غرقت فيها أوروبا وبريطانيا.