نوفل سلامة يكتب: العيش على الهامش وخيار التغيير من خارج المنظومة والنسق..

كتب: نوفل سلامة
‘وتنهد إبراهيم وقال لقد تم ما كنت أخشى لقد خسر نفسه وخسرته أسرته وخسرته بلاده لماذا؟ لماذا ؟ لماذا ؟ ” بهذه الكلمات أنهى الكاتب عبد المجيد عطية روايته ‘المنبتّ’ التي لخص بها التغيرات العميقة التي حصلت في ذهنية الشباب التونسي بعد سنوات قليلة من عملية التحديث والعصرنة التي بدأت فيها دولة الاستقلال والمراهنة على التعليم ونشره وفرضه لتحقيق الوعي المطلوب من أجل إرساء دولة ومجتمع حديثين…
جيل متمرّد!
وصوّر لنا عبد المجيد عطية النُقلة الكبيرة التي حصلت عند جيل كامل وأجيال أخرى تلته في الذهنية والنفسية التي لم تعد تقبل بالوضع الذي ورثته الدولة عن حقبة الاستعمار وتمرد على توصيات المجتمع وإكراهات الأسرة والضبط الذي فرضته السلطة الحاكمة على الأفراد حتى يكونوا في خدمتها.
حكاية حسن المُعلم
فالشاب إبراهيم الذي انهى به عبد المجيد عطية روايته حاول اقناع صديقه وابن قريته حسن بطل الرواية بعد أن انهى دراسته الجامعية في باريس وتحصل على الاجازة في الفلسفة ما يؤهله للتدريس في إحدى معاهد البلاد، وبعد أن غادر البلاد مكرها و هربا من الإدارة التونسية التي فرضت عليه أن يكون معلما، وأن يؤجل اكمال دراسته الجامعية بدعوى أن الدولة في حاجة إلى معلمين، حاول أن يقنعه بالبقاء في تونس وأن يستأنف حياته بين أهله وأصدقائه وأن يقبل بالاشتغال بالتعليم أستاذا في إحدى المعاهد ووعده بأن يبذل جهدا مع المسؤول على الانتداب في الإدارة التونسية حتى يعينه في إحدى المعاهد وأن يجلي الخلاف الذي كان قد حصل بعد أن تمرد حسن على التعليمات ورفض أن يكون معلما وقرر إكمال حلمه بالدخول إلى الجامعة من دون مساعدة من الدولة.
بعد أن أخذ إبراهيم موافقة على مضض من صديقه حسن الذي لم يكن واثقا من موافقة المسؤول الحكومي عاد إليه بعد محادثة طويلة جمعته مع هذا المسؤول الذي أراد معاقبة حسن على تمرده على قرار الإدارة التونسية وقبل به إطارا في التعليم، ولكن برتبة معلم ولم يقبل الاعتراف بالإجازة التي تحصل عليها في مادة الفلسفة والتي تؤهله أن يكون أستاذا لا معلما، عاد إليه بخطى متثاقلة وبوجه حزين ونفسية محبطة لأنه وجد صدا من الإدارة وغطرسة من المسؤول وعدم تفهم من الأشخاص الذين وضعتهم الدولة لخدمة أبناء الشعب والأخذ بيدهم وهم في بداية طريقهم المهني..
بطاقة من باريس
افترق الصديقان على أمل أن يلتقيا قريبا مرة أخرى بعد أن يأخذ حسن وقتا للراحة واستشارة العائلة وأن يفكر جيدا في العرض الذي قدمته الإدارة التي تعتبر نفسها هي الجهة الوحيدة التي تقرر مستقبل أبناء الشعب الذين وفرت لهم سبل التعلم ومكنتهم من فرص للدراسة وأهلتهم من أن يكونوا مواطنين تحتاجهم الدولة.. وقبل أن ينتهي أسبوع حتى اتصل إبراهيم ببطاقة بريدية عليها صورة برج إيفل ساطع بالانوار في ظلمة الليل وقد خط على محولها ” أعتذر إليك من ترك الالتقاء « ..
القرار الذي اتخذه بطل رواية ‘المُنبت’ بمغادرة البلاد دون رجعة والاستقرار في الغربة في بلاد العم السام أين وجد راحته والفضاء المؤهل لبناء مستقبل افتقده في وطنه كان في الحقيقة خيار الكثير من الشباب التونسي الذي لم يعد يقبل بما تقرر له العائلة والمجتمع والدولة وعرف تحولات عميقة في جرأته والخروج عن النمط والنسق والمنظومة السياسية والخيارات التي رسمتها الدولة للشعب…
جنة موعودة في أوروبا
وخاصة الفئة المتعلمة لقد بدأ التمرد مبكرا والخروج من مربع التحرك الذي وضعته الدولة سريعا لقد ظهرت فئة من الشباب المتعلم غير قابل بالتوصيات والخيارات والشروط، ويريد أن يبني البلاد ويساهم في البناء الجديد وفق رؤيته هو ونظرته وقناعته وهي حالة نجد لها أثرا اليوم عند شباب هذا العصر وخيارهم في ‘الحرقة’ إلى بلد الطليان بحثا عن حلم متخيل و جنة موعودة .. وهكذا نفهم كيف أن محاولات الخروج عن تصور الدولة للمستقبل وعرضها للتشغيل لم يكن وليد اليوم وإنما يعود إلى السنوات الأولى بعد الاستعمار وإلى الأعوام التي واكبت تخرّج دفعات من الشباب المتعلم الذي لم يقبل بما تقرره الدولة له وبدأ يفكر في الحل الفردي والتخلي عن حلول الدولة والحل الجماعي واقتنع بأن خلاصه وتحسين وضعه ومن ورائه تحسين وضع العائلة يمكن يكون فرديا و بمجهودات خاصة.
التغيير الحقيقي
صور عبد المجيد عطية في المنبتّ الحالة التي بدأت تظهر عند جيل كامل من الشباب والقناعة التي حصلت بعد تجربة من تسيير الإدارة بأفراد من التونسيين من أن أزمة البلاد تكمن في مسؤوليها وأن التغيير الحقيقي الذي بحث عنه الجميع والذي راهنوا عليه بعد خروج المستعمر لا يمكن أن يكون بمثل هؤلاء المسؤولين المتعنتين الرافضين للحوار والتفكير وأن التغيير الحقيقي لا يمكن أن يكون من داخل منظومة الحكم ومنظومة الإدارة التونسية بعد أن تم تونستها ولا من خلال الحل الجماعي والخلاص الجماعي..
وإنما التغيير الذي تحتاجه تونس لا يكون وفق هذه النظرة إلا من خارج منظومة الحكم ومن خلال الخلاص الفردي الذي ذهب إليه الكاتب السوري “حنه مينة ” صاحب رواية ” الياطر”.
وتتواصل المأساة..
يقول حسن بطل الرواية لقد نجوت بنفسي وأقر بعجزي عن تغيير الأوضاع .. كيف أقدم على تغيير وضع لفظني .. كيف أغير وضعا أراد أن يتحكم في ويأسرني ويوجهني .. كيف يمكن أن أغيّر أوضاعا موروثة ضاغطة ومستحكمة .. قد يكون التغيير من الخارج أيسر من الداخل أما ترى أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم لم يحقق نشر الإسلام بمكة إلا بعد أن هاجر منها…
أما ترى في تاريخنا المعاصر أن محمد عبده أخفق في النهوض بالأزهر لأنه حاول إصلاحه من الداخل عوض أن يسعى في تأسيس شيء جديد مكانه بينما في تاريخنا القريب منا نجح الحبيب بورقيبة ورفقاؤه في تنظيم حركة قادت البلاد إلى الاستقلال لما غادروا الحزب القديم .. لست نبيا ، لست مصلحا ، لست زعيما ، لست مستعدا أن أقدم خدي الأيسر لمن صفعني على الخد الأيمن .. أفضل أن أكون محكوما عليه بالغربة والنسيان مع توفر الحرية والكرامة من أن يحكم علي بمحو ثلاث سنوات من حياتي.”
إنها صورة عن أجيال كاملة من الشباب التونسي ترسخت لديهم نفس القناعة من أن هذه البلاد طاردة لأحلامهم ورافضة لهم وغير قابلة إلا بما يخططه مسؤولوها ويقرروه.. وتتواصل المأساة ..