نوفل سلامة يكتب/ الدكتورة رياض الزغل تقدّم كتابها الجديد ‘محاربة الفقر والتطور المحلي’

كتب: نوفل سلامة
ليس من عادات مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات تقديم الكتب والإصدارات الجديدة، ولكن في ندوة يوم السبت 23 نوفمبر الجاري خيّر صاحب المؤسسة الأستاذ عبد الجليل التميمي أن يخرج عن هذه العادة ويستضيف في اختيار موفق الدكتورة رياض الزغل الأستاذة الجامعية المتخصصة في قضايا علم النفس وعلم الاجتماع وقضايا الاقتصاد و التنمية وسلوك الأفراد والسلوك التنظيمي للمؤسسة زيادة عن تجربتها في الإدارة التونسية حيث شغلت لفترة قبل الثورة مستشارة في بلدية صفاقس..
موضوع الفقر
واستضافتها كانت من وراء إصدارها لكتابها الأخير ‘محاربة الفقر والتطور المحلي المستدام’ وهو الكتاب عدد 25 في سلسلة كتبها التي تنشرها والذي خصصته لموضوع الفقر وتطوير الجهات والمحليات وهو موضوع راهني و قضية لم ينته الحديث عنها ولا يزال النقاش والحوار مفتوحا بخصوصها بعد أن تحول الفقر إلى معضلة وهاجس كل الشعوب وأهم إكراه تواجهه الحكومات الديمقراطية التي يعد كل من يفوز في انتخاباتها ويتسلم الحكم والسلطة بالتخفيف من وطأة البؤس والتقليل من منسوب الهشاشة ويعد بوضع سياسات لمعالجة هذا المشكل الذي لازم البشرية ولا يزال.
ثقافة الكرامة
الكتاب يتنزل ضمن ما تسميه الدكتورة رياض الزغل بثقافة الكرامة والإجابة على سؤال كيف نحقق للمواطن والعامل قدرا من الإنسانية من خلال تحسين عيشه المرتبط بوضع سياسات عمومية تحقق التنمية في الجهات الداخلية وتحسس المواطن بأنه ينتمي إلى دولة راعية لشؤونه ومرافقة له في حياته وحامية له من وضع الحرمان والخصاصة، فهو كتاب جاء نتاجا لمسيرة بحثية علمية دامت لسنوات وخلاصة تجربة عملية وما تراكم لديها من معرفة تقول عنها أنها ليست موضوعية بصفة مطلقة لكونها محكومة بـ انتماءاتها الفكرية و الأيديولوجية بما يعني أنها تعترف منذ البداية أن مقاربتها لقضايا هذا الكتاب منحازة لرؤاها الخاصة…
الداخل المنسي
ولكن هذا لم يمنعها من إلزام نفسها بالصرامة العلمية والدقة المنهجية في الاعتماد على المعلومة ونشرها من ذلك اعتمادها على مختلف مناهج علم الاجتماع في دراسة الظواهر الاجتماعية الكمية والنوعية وعدم إقصاء أي منهج من دراساتها الميدانية وأبحاثها حول سلوك الأفراد في أماكن العمل وحول دور المرأة في المجال الاقتصادي، وخاصة العاملات في الميدان الفلاحي وقطاع الصناعات التقليدية و زياراتها الميدانية إلى العديد من قرى الجنوب والتعرّف على نوعية الحياة فيها ونوعية العلائق في الداخل التونسي الذي نسميه مهمشا ومنسيا والبعض الآخر ينعته بالمُقصي من التنمية في عملية عقاب سياسي لها أسبابها التاريخية…
حدة الفقر
في هذه المناخات تعرّفت الدكتورة رياض الزغل واكتشفت حدة الفقر والكم الهائل من الطاقات المهدورة عند سكان هذه الأماكن وخاصة الطاقات الموجودة عند المرأة الريفية والمرأة العاملة في القطاعات الصغرى وخاصة إهدار ما تم اكتسابه من معرفة موروثة لا نجدها ولا تكتسب بالمعرفة الحديثة التي تلقن في المدارس والمعاهد والكليات..
هنا تقف الدكتورة رياض الزغل على أصل الداء وعلى العامل الذي كان وراء كل مشاكلنا وتسبب في تعثّر الحلول التي وضعتها دولة الاستقلال والحكومات المتعاقبة حتى اليوم في معالجة مشكلة الفقر وكل المشاكل الأخرى المرتبطة به، وهي صعوبة التخلص من الإرث الفكري والمعرفي للمستعمر القديم وعدم القدرة على التفكير من خارج المجال المعرفي الأوروبي وبقاء النخبة السياسية والفكرية حبيسة المعرفة الكولونيالية واستعادة هيمنتها المعرفية بإرادة هذه الشعوب التي مر الاستعمار من أراضيها…
فالمشكلة تكمن فيما تقوم به النخبة من قبول للهيمنة المعرفية الغربية في إيجاد حلول لمشاكلنا والاعتماد على هذه المعرفة لوضع سياسات وخيارات وحلول لقضية الفقر وكل القضايا الأخرى لا تلائم وضعنا ولا تستجيب لهواجس أسئلتنا…
المشكل في عقدة النقص التي وصمنا بها الغرب وعقدة التفوق الغربي التي اقتنعنا بها. فالاستعمار الأوروبي قام على ما روج له عصر الأنوار الأوروبي من فكرة أن الحضارة والتقدم لا يمكن أن يكونا إلا غربيين وأن المعرفة والثقافة والفكر هي نتاج غربي أوروبي في مقابل همجية الآخر غير الأوروبي.
عقلية استعادة الاستعمار
الخطورة اليوم ليس في الحالة الاستعمارية القديمة والتي انتجت احتلال الأرض واستغلال الخيرات والموارد الطبيعية وإنما الخطورة في وجود عقلية قابلة باستعادة الاستعمار، ولكن بطرق أخرى ومداخل مختلفة ومواصلة الشعوب التي تخلصت من مستعمرها القديم في الإيمان بتفوق المحتل الأجنبي…
الخطورة في مواصلة المستعمر لسياساته وقناعاته الاستعمارية التي تعتبر أن الذي لا ينتمي إلى بلد الأنوار فهو ليس إنسانا كاملا وإنما هو نصف إنسان أو نصف حيوان يجب التحكم فيه وتأهيله حتى يدخل إلى عالم الحضارة.
هذه الفكرة التي تؤسس لعالم متفوق يمتلك كل شيء وهو القادر وحده والمؤهل لقيادة البشرية و في المقابل توجد عوالم أخرى ليس من حقها أن تكتسب عناصر القوة والتفوق من علم ومعرفة وحلول لمشاكلها بدأت تعرف تمردا عليها وخاصة من طرف مثقفي ومفكري دول أمريكا اللاتينية التي تقود حركة لمقاومة التصور الاستعماري الجديد الذي عرفت بحركة ” الديكولونيالية ” القائمة على فكرة أن الاستعمار بعد خروجه من الأوطان التي احتلها قد أنتج سلطة غير منتهية لا تزال إلى اليوم تتحكم وتوجه الحكومات وتسيطر وتستغل ثروات الشعوب، فـ المستعمر القديم قد أنتج ثقافة ومعرفة تقوم على تفوق الرجل الأبيض الذي يعتبر نفسه المالك للحقيقة والمالك التصورات والرؤى ويحتكر سلطة القرار وما على الشعوب الأخرى ودولها إلا الاستجابة لما يرسمه الغرب فالعالم العقلاني والطريق الصحيح للحضارة لا يأتيان إلا من السلطة المسيطرة في العالم وهي سلطة غير متناهية حتى وإن خرج المستعمر من الأوطان…
الخطير في هذا التصور الاستعماري الجديد الذي تتصدى له حركة الديكولونيالية في إيمانه بأن الشعوب غير الأوروبية وخاصة شعوب عوالم الجنوب غير قادرة على انتاج المعرفة وصياغة العلوم وعدم قدرتها على إنتاج المعاني وصياغة المفاهيم الجديدة والمقاربات المختلفة عما صاغه هذا الغرب الاستعماري…
طاقات مهدرة
وهذه القناعة المطبقة اليوم من تداعياتها الخطيرة قتل الرغبة والقدرة عند الشعوب التي خضعت للاستعمار على إنتاج العلوم وبناء المفاهيم الجديدة والبقاء في حالة التبعية والارتهان والاستهلاك لكل ما ينتجه الآخر، وهذه الوضعية التي عليها اليوم شعوب عوالم الجنوب نتيجة هذه العقلية الاستعمارية المتواصلة وجراء السلطة اللامتناهية للمحتل القديم أن تم إهدار طاقات وقدرات كثيرة كان من الممكن الاستفادة منها، وإهدار المعرفة المتراكمة التي تكوّنت عند أفراد المجتمع وإهدار ثمار التجارب الحياتية المتراكمة والتي أفرزت حالة من الذكاء وتجارب متعددة تصلح لإنتاج حلول واقعية لمشاكل الوسط البيئي الذي نعيش فيه…
أول خطوة ضد الفقر
فمشكلة الفقر وكل المشاكل الأخرى من بطالة وهشاشة اجتماعية وغيرها تحتاج إلى حلول محلية نابعة من البيئة والظروف التي أنتجتها والتي لا يصلح معها إسقاط مقاربات وحلول انتجت لبيئات أخرى وظروف مختلفة، لذلك فإن أول الخطوات في سبيل إيجاد حلول لمعضلة الفقر هو تغيير عقلية الشعب في اتجاه أننا قادرون على إنتاج المعارف والتصورات والحلول لمشاكلنا والأهم من ذلك أن نسترجع القدرة على إنتاج المفاهيم لكل مشاكل المجتمع واكراهات الدولة وأن نقر بأننا قادرون على انتاج حلول وصياغة مقاربات لمحاربة مشكلة الفقر وكل مشكلة من داخل فضائنا المعرفي والفكري ومما تراكم لدينا من تجارب الأفراد وخبراتهم وما اكتسبوه من قدرات ذاتية وجماعية فالحصان لا يأكل إلا ما يقدم له ونحن لا نريد أن نكون كالدواب نُقاد حيث يشاء الراكب.
بعد هذا المدخل المنهجي المهم والهام وهذا المستوى من الوعي الذي حملتنا إليه الدكتورة رياض الزغل وهي سابقة معرفية أن تخصص باحثة جامعية تناولت موضوع الفقر من خلال طرح مسألة قابلية المثقف والمفكر والمسؤول تبني فكر الاستعمار ومواصلة وإدامة هيمنته المعرفية ولفت نظرها إلى ضرورة فك الارتباط مع هيمنة المركزية الأوروبية في المعرفة من دون التقوقع على الذات أو العيش خارج هذا العالم، وهذا الكون الذي يشهد تشابكا وترابطا في المعرفة والعلم وأن تكون استفادتها وعلاقتنا بهذا العالم خارج فكرة الهيمنة والاحتواء وقائمة على الاعتزاز بالنفس والإيمان بالقدرة على الابداع وإنتاج المعرفة وصياغة المفاهيم.
إشكاليات الفقر
بعد هذه المقدمة تأتي المحاضرة إلى ما تقترحه من حلول لإشكالية الفقر في بلادنا والتي بلغت خلال سنة 2024 حسب تقديرات المعهد الوطني للإحصاء 23 .2 % نجد فيها ترتيب الولايات من حيث نسبة الفقر كما يلي : الولايات التي تبلغ فيها نسبة الفقر أقل من 10 % تونس وبن عروس وصفاقس، أريانة والمنستير ونابل ومنوبة والولايات التي تعرف نسبة للفقر بين 10 و 20 % وزغوان وسوسة وتوزر وبنزرت وقابس وتطاوين ومدنين وقفصة وقبلي والولايات التي تعرف نسبة الفقر أكثر من 20 % وتصل إلى حدود 30 % وجندوبة وسليانة و المهدية وسيدي بوزيد وباجة والقيروان أما أفقر الولايات في تونس والتي تعرف نسبة للفقر تفوق 30 % فهي الكاف والقصرين بنسبة 33 % هذا من دون أن نتعرض إلى العمادات داخل هذه الولايات التي تعرف نسبا للفقر مرتفعة جدا وهي جهات تفتقد إلى نسيج من العلائق يتيح لها الاستفادة بقدر معقول من الخدمات المتوفرة وينقصها القدرة والامكانيات التي تتيح لها الولوج إلى مختلف الخدمات بكل سهولة ويسر وتتميز بفقر مادي ونفسي ومجتمعي يجعل أفرادها فاقدي الأمل في المستقبل وفاقدي الارتباط مع الدولة وهياكلها وتحول حلمهم إلى خارج الوطن
إجراءات واختيارات
ما تقترحه الدكتورة رياض الزغل من حلول لمشكلة الفقر هو جملة من الإجراءات والاختيارات السياسية ومنظومة سياسية تقوم على مركزية الإنسان لصناعة التنمية واستغلال ما يتوفر من قدرات ومن ذكاء فردي وجماعي لإنتاج تنمية محلية دائمة فما نحتاجه هو نمط آخر من التسيير يقوم على ممارسة ديمقراطية حقيقية مغايرة للديمقراطية الشكلية التي تكتفي بالعملية الانتخابية وإهدار المال العام من دون أن تتحول إلى أثر في الواقع فالديمقراطية المطلوبة في عملية التنمية هي تلك التي تدرب المواطنين في المحليات على الحوار والنقاش وتقاسم السلطة واتخاذ القرار الجماعي في المحليات والجهات فالديمقراطية بهذا الفهم هي التي تجعل المواطن يعرف حقيقة حاجياته و يضع سلم ما يلزمه ويحدد أولوياته التي تنشأ بفضل ما يتوفر من ذكاء جماعي وتنظيم محلي وتطبيق نمط جديد من التسيير وتطبيق اللامركزية الحقيقية ومن نظرة مختلفة للحوكمة…
فما نحتاجه هو نمط جديد للتسيير وفق فكرة الديمقراطية التشاركية التي تسمح لكل فرد في المحليات والجهات الداخلية أن يحقق الثروة وينتجها ويحقق القيمة المضافة التي تحقق الكرامة من خلال توفير مواطن الشغل بفضل المشاريع التي يختارها المواطنون تلبية لـ حاجيتهم وما يحتاجونه تماشيا مع خصوصية المنطقة وما اشتهرت به في مجالات كـ الفلاحة والصناعة التقليدية أو التجارة، وأي مجال آخر ومن خلال توظيف الطاقات المحلية لتحديد الحاجيات فهذه التنمية المحلية التي توفر قدرا من مواطن الشغل من خلال الاعتماد على حاجيات الجهات وخصوصياتها وحرية الأفراد في تحديد هذه الحاجيات من دون إكراهات الإدارة المركزية وتحكمها في ضبط السياسات والخيارات للجهات الداخلية فالقرار يتخذ في الجهات ومن خلال توظيف الطاقات والقدرات الفردية والجماعية، وبهذه الطريقة تتقلص الفوارق الجهوية وتقترب المناطق من بعضها البعض في عملية تعاون وإسناد واستفادة مشتركة…
وصفة النجاح
هذا التوجه في معالجة مشكلة الفقر الذي تقترحه الدكتورة رياض الزغل القائم على مقاربة يتلازم فيها ثالوث التنمية واللا مركزية والديمقراطية وهي عناصر تغذي بعضها البعض يراهن في المقام الأول على الانسان ويحتاج إلى أن ننتهي مع وضعية احتقار الذات وتقليل القيمة وإهدار الطاقات وتحرير الفكر من هيمنة المعرفة الاستعمارية، ما نحتاجه لتحقيق ذلك ديمقراطية وحوكمة متحررتين من القوالب الغربية في التفكير من أجل صناعة إنسان فاعل وإنسان مقاوم في عملية بناء جديدة ورؤية جديدة لتونس ومن أجل بلد بأقل مشاكل اجتماعية ممكنة نحو عالم من دون فقر ولا فقراء أو على الأقل بأقل قدر ممكن من الهشاشة والتهميش والاقصاء.