صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب: ‘الخوارج’ المنعرج الخطير في التاريخ الإسلامي

slama
كتب: نوفل سلامة

نواصل في هذا المقال مع مسلسل معاوية الذي شكّل الحدث الدرامي الأبرز في رمضان هذه السنة وشدّ إليه المشاهدين واهتمام أهل الفكر والثقافة لغزارة المادة التاريخية التي بثها وكثرة الأحداث والمحطات التاريخية التي فتحت نقاشا لفهم تاريخنا..

وأيضا فهم كيف تشكل الإسلام المبكر خلال القرون الأولى المفصلية بعد موت الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وتداعيات التطورات التي حصلت بعد أن انتقل الدين من مجرد دعوة وإيمان إلى دولة ومنظومة سياسية واجتماعية واقتصادية ومالية بدأت تأخذ مكانها في عالمها…

فرقة الخوارج

وقفتنا هذه المرة مع تشكّل فرقة الخوارج التي انشقت عن علي بن أبي طالب، بسبب نزوله عند طلب معاوية بن أبي سفيان اللجوء الى التحكيم لإنهاء الحرب الدائرة بين الرجلين و انهاء الخلاف السياسي و الفتنة التي تواصلت لسنوات من دون أن يحسم النزال لفائدة أي من الفريقين، ونتج عنه فقدان أكثر من سبعين ألف من المسلمين في حرب لم يستفد منها أحد بل كانت نتائجها كارثية…

حيث رأى فريق كبير من جيش علي أن عملية التحكيم التي لوّح بها معاوية بعد أن رفع جيشه المصاحب في موقعة صفين غير مقبولة، وهي خدعة تعمدها معاوية بعد أن باتت الحرب في طريقها للحسم الميداني لصالح معسر علي بن ابي طالب وخرجوا عن طاعة الخليفة وقالوا لـ علي بن أبي طالب كيف تقبل بالصلح و بالتحكيم ونحن قد بايعناك ونعتقد أنك الخليفة الشرعي وأنك على الحق وأن معاوية على باطل ولو كان هو على حق ما بايعناك…

أول تشكل للمعارضة

كان هذا الخروج الذي قام به حوالي عشرة آلاف من المسلمين من جيش علي أول تشكل حقيقي للمعارضة السياسية في التاريخ الإسلامي، فبعد المعارضة الجنينية التي مثلها الأشطر وجماعته في العراق وتحرّكه إلى تأليب الناس على الخليفة عثمان بن عفان، ومعارضته له بسبب ما نُسب إليه من سوء إدارة الحكم نقف مع الخوارج عند محطة أخرى للتحول الذي حصل في المجتمع السياسي الإسلامي في علاقته بالحاكم…
فكان الخوارج الذين رفضوا عملية التحكيم التي جرت بين علي و معاوية أول حركة أو جماعة تشكلت لمعارضة الخيارات السياسية للحاكم، وأول مبادرة جريئة للخروج عن طاعة الخليفة والانتقال من وضعية إبداء عدم الرضا عن قرارات الحاكم بالقول والنصح و الكلمة والإفصاح عن الرأي الحر بطريقة سلمية إلى الخروج عن قاعدة السمع والطاعة، وتكوّن حركة جماهيرية مسلحة تطرح نفسها بديلا للحكم القائم وتتبنى نهجا مختلفا في رؤيتها للأشياء وإدارة الأمور، وتعتقد بأن الحق معها وأنا فهمها هو الفهم الصحيح الذي وجب أن يتبع حتى وإن لزم الأمر استعمال القوة والاكراه وحمل السيف.

أهل صيام وصلاة

يقول كل من أرّخ لتلك المرحلة من تاريخ الإسلام المبكر وكل من دوّن لنشأة الخوارج أنهم كانوا عبادا أهل صيام وصلاة، وكان فيهم الكثير من حفظة القرآن وعُرف عنهم مواظبتهم على تلاوة كتاب الله وخاصة أثناء الليل حتى عرفوا باسم ‘الحفظة’، وهذا ما يجعل منهم في الأدبيات القديمة مؤمنين صادقين غيورين على الإسلام خائفين على زوال شوكته وضياع ما تحقق من مكاسب وانتشار وقوة ويبعد عنهم شبهة الميل إلى الدنيا أو التحرّك من أجل أغراض خاصة ومكاسب شخصية، ولكن هذه الخصال التي كانوا عليها لم تمنع وصفهم في الأدبيات القديمة بالتشدّد في فهم الدين مما جعلهم يحيدون عن الاعتدال حتى وصل بهم الحال إلى الغلو والتطرف و قادهم تشددهم إلى القول لأول مرة منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بتكفير المسلمين الذين لا يتفقون معهم في الرأي وكل من خالفهم في الفهم وتأويل النص القرآني بل زادوا بأن كفّروا أصحاب الذنوب الصغيرة وأباحوا قتل المسلمين من النساء والأطفال وتوسعوا في التأويل والاجتهاد بما تمليه عليهم عقولهم وتوجهاتهم طمعا في رضا الله ونيل الجنة وانتصارا لدين الله كما يقولون…

أخطر منعرج

ومن هنا حصل أخطر منعرج عرفه التاريخ الإسلامي وأخطر تطور عرفه المسلمين فرغم كل ما قيل عن الفتنة الكبرى التي حصلت بين المسلمين والتي ذهب ضحيتها الآلاف من المسلمين بسبب الاختلاف على الحكم من وراء الخلاف بين علي ومعاوية حول الموقف من قتلة عثمان وضرورة القصاص منهم، وما احدثته هذه الفتنة من انقسام المسلمين وإضعاف شوكتهم وما حصل من تداعيات مؤثرة ما زالت جراحها و آثارها الى اليوم متحكمة، فإن ما حصل من انشقاق في جيش علي بن ابي طالب وتشكل معارضة جماهيرية قوية و مسلحة تضم الكثير من القراء للقرآن وحفظته تتبنى فكرا تكفيريا ومعرفة دينية مغالية ومتشددة شرّعت للتكفير والقتل بإسم الدين وكانت أول من قال بتكفير المسلم والحكم عليه بالقتل لمجرد أنه تبنى رأيا مخالفا لرأيهم، هو تحول أخطر وأبلغ أثرا من وقوع الفتنة والخلاف السياسي والاقتتال على فظاعته.

انشقاق الخوارج

فحدث انشقاق الخوارج عن الإمام علي كرم الله وجهه وتكوين معارضة له والحكم عليه بعد قبوله بالحكيم بأنه قد ارتكب معصية توجب الكفر ومطالبته بالتوبة بعد أن اعتبروه قد وقع حسب ظنهم في الكفر والحكم على معاوية بالقتل لعدم بيعته علي بن أبي طالب خليفة للمسلمين وقولهم بأن قتال المسلمين العصاة الخارجين عن الإسلام مقدم على قتال المُشركين، هو حدث في نظرنا أخطر ألف مرة من حصول الفتنة بعد مقتل عثمان بن عفان.
فرغم كلفة الحرب الثقيلة في الأرواح التي تسببت فيها الفتنة ورغم نتائجها الوخيمة على صورة المسلمين وانقسامهم وذهاب وحدتهم فإنها لم تؤد إلى تكفير المسلمين واستباحة ممتلكاتهم وعائلاتهم وإنما بقي الخلاف السياسي في ميدان القتال مع إقرار الطرفين بأن الذي يحصل فتنة غير مجدية للمسلمين ومضرة بهم، وكان المسلمون يسعون إلى انهائها من دون تكفير بعضهم بعضا لكن الذي حصل مع الخوارج هو تكوّن ثقافة دينية خطيرة تقوم على تكفير المسلم لمجرد الاختلاف معه في الرأي وفهم النصوص الدينية والحكم على المخالف في شأن من شؤون الحكم والسياسية بالكفر واستباحة دمه ومن هنا ظهرت التيارات الدينية المتطرفة والجماعات المغالية المتشددة التي تتكلم بإسم الإله و تقدم نفسها حامية لوحدها للإسلام وأعطت لنفسها تفويضا للحديث بإسم الدين.

ثقافة التكفير والقتل

خطورة فرقة الخوارج أنها أسّست لثقافة التكفير والقتل والخروج المسلح على الحاكم وكان فكرها هو التأصيل النظري والعملي لكل الفرق والجماعات المتطرفة وكل الجماعات الجهادية المقاتلة التي ظهرت في عصرنا الحاضر قال عنهم ابن تيمية فيهم جهل كبير قاوموا السنة والجماعة عن جهل، والجهل مرض عضال يهلك بصاحبه من حيث لا يشعر وفيهم فرق من أهل البدع يكفرون بالذنوب والسيئات ويترتب عن ذلك استحلال دماء المسلمين وأموالهم وهذا من سوء فهمهم للقرآن .. فهموا من القرآن ما لم يدل عليه و حكموا بكفر كل من خالف القرآن بعمل أو برأي..

ضعف المعرفة

المفيد الذي نخرج به من هذه الوقفة مع جماعة الخوارج أن أصل مشكلة التطرف والتشدد والمغالاة التي ظهرت في التاريخ الإسلامي في زمن الإسلام المبكر وتتواصل إلى اليوم مردها قلة الفهم وضعف المعرفة وغياب الإلمام بجميع نواحي الدين وغياب ملكة العقل والتدبّر والتعويل على فهم الإسلام من ظاهر نصوصه فقط، والحال أن الدين لا يُفهم بما توحي به ظاهر الآيات ولا يفهم مجزأ من دون قراءة مركبة موضوعية لنصوصه وآياته لتكوين فكرة واضحة حول قضية من القضايا..
ولا يُفهم بالهوى وبما تميل إليه النفس والرغبة الشخصية وإنما وفق معرفة شاملة وقراءة هادئة وتأويل لما غمض وأشكل من نصوصه بروح معتدلة تنسّب الأحكام ولا تدعي امتلاك الحقيقة والمعرفة الكاملة.
الخطر الذي لم يقدر أحد على تفاديه أن الخوارج استطاعوا ونجحوا في بث أفكارهم بين المسلمين فنشأت عليها أجيال لا تميز بين الخبيث والحسن ولا بين الوهم والحقيقة وأنتجت في كل عصر جماعات تنتسب إلى الإسلام وتروج للعنف والقتل وسفك الدماء في الوقت الذي ينهى فيه ديننا قتل المسلم ويُحرمه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى