صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب/ التطبيع مع اسرائيل معركة أتعبت الشعوب وأرهقت النخب العربية..

slama
كتب: نوفل سلامة

الانطباع العام اليوم في الوطن العربي والعالم الإسلامي أن معركة التصدي إلى كل مشاريع التطبيع مع الكيان الصهيوني ومقاومة محاولات اختراق وكسر وحدة الصف الرافضة لإحلال سلام من الكيان الغاصب قبل التوصل إلى حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية هي معركة مثقلة وقد أتعبت الشارع العربي وأرهقت ما تبقى من النخبة العربية المثقفة..

وخصوصا منتها النخبة الرافضة لأي تعامل مع سلطة الاحتلال الاسرائيلي قبل إنهاء حالة الغصب وحالة الاحتلال التي تعرض لها الشعب الفلسطيني وقبل إرجاع حقوقه المشروعة وأولها حقه في إنشاء دولته الحرة والمستقلة على أرضه التاريخية.

قضية أمّة

هذا الإحساس بكون القضية الفلسطينية قد أصبحت عبئا ثقيلا على الشعوب العربية والإسلامية باعتبارها قضية أمة ومصير واحد مشترك طالت أزمته وحالة تعب للمكون المثقف من النخبة العربية التي تصارع من أجل أن يبقى هذا الهاجس حيا في ضمير الأمة، مرده حالة التعقيد التي باتت عليها القضية الفلسطينية والتحولات الكبرى التي يشهدها مسارها وهي حالة زادت من تمزيق الصف العربي وأخرت حل القضية وأدخلتها في نفق مظلم لا مخرج له إلا من خارج دائرة القرار العربي ومن خلال الفاعلين الدوليين.

معركة التطبيع

ومما زاد من تعقيد المسألة صعوبة معركة التطبيع التي يخوضها المقاوم العربي في ظل التحولات الجيوسياسية المؤثرة التي تعرفها منطقة الشرق الأوسط وأمام نجاح العدو الصهيوني وحلفاؤه في إرباك صف المقاومة وإضعاف توجهات المقاطعة وكسر صمود جبهة رفض التطبيع بعد خروج بعض الدول العربية والإسلامية عن وحدة الصف والقرار العربي القاضي بمناصرة القضية الفلسطينية وعدم التطبيع الفردي مع الكيان الصهيوني

160 دولة

حيث الاعتراف اليوم بإسرائيل قد وصل إلى حدود 160 دولة من أصل 193 دولة ومنظمة منضوية تحت لواء الأمم المتحدة بعد التحاق دول عربية بقائمة الدول المطبعة مع دولة الإحتلال وفي المقابل لم يبق إلا عدد صغير من الدول في الضفة الأخرى تصارع بمفردها الضغوطات لإجبارها على إعادة ربط العلاقات مع الكيان الغاصب قبل إقرار أي تسوية عادلة للشعب الفلسطيني منها تونس والجزائر وسوريا والعراق.
الحقيقة اليوم أن القضية الفلسطينية تعيش حالة انحسار بعد أن فقدت الكثير من وهجها و زخمها الشعبي وفقدت مساندة الرأي العام العالمي والأهم أنها فقدت روحها الذي كانت تتمتع به في الزمن الذي كان ينظر فيه إلى القضية الفلسطينية على أنها قضية استعمار غاشم ومعركة تحرير أرض مسلوبة و احتلال شعب ومحو تاريخه وذاكرته.
إن الخطير اليوم إلى جانب تراجع التأييد والتحمس للقضية وفتور الشعور بأحقية هذا الشعب في الحصول على استقلاله وتحرير أرضه وبناء دولته فوق أرضه التاريخية ونسيان الشعوب، أن الكيان الغاصب قد صنفته الأمم المتحدة ضمن قرارها عدد 3379 الصادر في 10 نوفمبر 1975 دولة ” أبارتهايد ” و كيانا عنصريا، الأخطر من ذلك أن مشروع التطبيع العربي تقوده بعض الدول العربية وتتحمس له قيادات عربية ويدفع به نحو الأمام ساسة عرب وفق رؤية خطيرة ومشروع سياسي يخدم المصالح الإسرائيلية يطلق عليه اسم مشروع “السلام الإبراهيمي” الذي انطلق في شهر سبتمبر 2020 من فكرة أمريكية نظّر لها الرئيس الأسبق جيمي كارتر في دراسة كان قد أعدّها بعد إبرام اتفاقية ” كامب ديفيد ” ونفذها ووضعها على أرض الواقع الرئيس “ دونالد ترامب ” الذي أشرف على مراسم التوقيع على ما اصطلح على تسميته بـ ‘اتفاقيات أبراهام’ التاريخية التي شملت تطبيع العلاقات بين دولة الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل وإعلان تأييد السلام بين هذه الأخيرة ودولة البحرين تمهيدا لإمضاء معاهدة سلام نهائية بينهما.

الخطير في هذا التحول في رؤية التعامل مع نصرة القضية الفلسطينية في فلسفة ومحتوى هذا المشروع الذي أوكل تنفيذه إلى أطراف عربية عُهد لها مهمة الضغط على ما تبقى من دول الممانعة والمقاومة وإزالة الجدار الأخير من المقاطعة العربية الرافض للتطبيع وإنهاء حالة الرفض العربي لأي تسوية مع الكيان الصهيوني قبل تسوية قضية الشعب الفلسطيني.

انحراف كبير

اليوم نحن أمام انحراف كبير بمسار القضية الفلسطينية وأمام تحوّل خطير في الموقف من الكيان الصهيوني وأمام مشروع السلام الابراهيمي المدمر لكل التاريخ من النضال العربي وجهد القوى الحيّة في العالم من أجل الحق الفلسطيني، مشروع تم تصميمه من أجل تفتيت الصف العربي وتصفية القضية نهائيا وكسر وحدة وتماسك الشعوب المناصرة لأصحاب الأرض من خلال استدعاء المكون الديني وتوظيفه لفك الحصار على الصهيونية وإحلال حالة سلام وتطبيع مغشوش من خلال صورة وشخصية النبي إبراهيم عليه السلام ومن خلال استدعاء الأب الأول للديانات الثلاث الإسلام والمسيحية واليهودية والجد المشترك للشعوب المنتمية لهذه الديانات على اعتبار أن الجذع المشترك والذي يجمع إيمان هذه الديانات ويوحدها هو شخص النبي إبراهيم…

وهذا الاستجلاب لهذه الشخصية لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي من خارج القرارات الدولية، ومن خارج الحق الشرعي للشعب الفلسطيني هو محاولة خطيرة يروج لها الصهاينة وحلفاؤهم في العالم ويجعلون من هذا الرابط الديني الحل لإحلال السلام وصيغة توافق وتعايش بين المتخاصمين وبين الشعوب التي تنتسب إلى جد واحد وأب واحد وهو إبراهيم عليه السلام الذي يمثل مصدر الديانات السماوية الثلاث والأخطر من هذا الاستدعاء الديني الذي يراهن على دغدغة مشاعر المؤمنين البسطاء في كونه تعدى إلى تأصيل هذا المشروع المغشوش في كتاب جامع للعقائد الثلاث وتقديمه على أنه هو المرجع والبديل عن الكتب السماوية الثلاث من أجل الاعتماد عليه وتطبيقه في إحلال السلام بين الشعوب العربية والشعب الاسرائيلي…

معاداة إسرائيل غير مجدية

الفكرة الأساسية التي يدور حولها مشروع السلام الإبراهيمي من أجل التطبيع مع إسرائيل تقوم على أن معاداة إسرائيل لا فائدة منها ومواصلة الصراع مع العرب لم يعد مجديا، طالما وأن الشعوب والقيادات السياسية المتصارعة تعود إلى أصل واحد وجذع مشترك هو الديانة الإبراهيمية ومن ثم فإن الصراع العربي الاسرائيلي عليه أن ينتهي ليحل محله السلام والعودة إلى حالة التعايش التي تمليها شريعة النبي إبراهيم…

غير أن التحايل الكبير الذي يحتوي عليه هذا المشروع الإنجيلي التوراتي والذي تم الإعداد له منذ أواخر تسعينات القرن الماضي واشتغلت عليه مخابر بحث ومراكز دراسات أمريكية لقرابة الأربع سنوات في النتيجة التي انتهى إليها، وهي التوصية بضرورة العمل على إنهاء حالة الصراع المكلف لليهود من خلال اتباع طرق أخرى غير إعلان حالة الحرب الدائمة والمراهنة على الحسم العسكري والعمل المسلح الذي اتضح أنه لم يؤد أكله في إحلال سلام دائم لإسرائيل واختيار وسائل أخرى لخدمة المصالح الإسرائيلية من خلال مدخلين: الأول يتمثل في المسار الديني واللعب على وتر الجد المشترك والموروث الديني الواحد واستدعاء شخصية النبي إبراهيم و إعطاء مسحة إيمانية دينية على المشروع يقبل بها المؤمن العربي وغير العربي وإضفاء شيئا من المقبولية الدينية للفكرة على اعتبار وأن الصراع يطغى عليه في جزء كبير منه المعطى الديني.
والمدخل الثاني أن يكون إنهاء الصراع وتطبيق المشروع الإبراهيمي بفاعلين من داخل المكون العربي ولا من خارجه وتكليف فاعلين عرب بتنفيذ هذه المهمة بدل فرضه من قبل قوى غربية مساندة لإسرائيل حتى تقبل به الشعوب العربية وحكوماتها فكان بداية تنفيذ فكرة التطبيع مع دولة البحرين ثم دولة الإمارات العربية المتحدة ليلتحقا بالتطبيع القديم حالة مصر سنة 1979 وحالة الأردن سنة 1994 وبهذا يكون مسار التطبيع ضمن مشروع السلام الإبراهيمي قد انطلق وأخذ مساره للضغط على ما تبقى من دول عربية وإسلامية لم تطبع من دون الرجوع إلى ما اتفق عليه العرب في قمم عربية كثيرة و دون العودة إلى المقررات المتفق عليها بعدم التطبيع الفردي والإلتزام بالقرار الجماعي القاضي بعدم ربط علاقات مع إسرائيل مهما كان مأتاها قبل التوصل إلى تسوية عادلة للقضية الفلسطينية وفق الحل الجماعي لا الفردي.

تطبيع ثقافي وفني

الخطير فيما تقوم به الدول العربية المتحمسة لمشروع السلام الإبراهيمي من ضغط على ما تبقى من دول الصمود والمقاومة لتصفية القضية الفلسطينية تصفية غير عادلة و منحازة للخيارات الإسرائيلية فيما يحصل في الواقع العربي وفي مشهد النخبة العربية المثقفة حيث يطالب اليوم جزء من النخبة العربية بإعادة طرح السؤال حول مسألة التواصل مع إسرائيل ومراجعة الموقف بخصوص التطبيع غير السياسي ومناقشة ما يحصل من مشاركات عربية في ملتقيات رياضية وفنية وعلمية وثقافية وأكاديمية حيث وفق هذه الرؤية فإن مقاطعة إسرائيل لم تعد مسألة محسومة برمتها، وإنما هناك اليوم من نخبتنا من يدفع نحو التواصل الفني والعلمي ولا يرى في هذه المجالات تطبيعا مضرا بمسار التسوية العربية الاسرائيلية ولا إضرار بالحق الفلسطيني.

المقلق في المسألة

المقلق أن هذا التوجه لجزء من النخبة العربية فيما أحدثه موقفها من حالة الضباب الفكري والشرخ في الموقف والاضعاف للموقف المبدئي المتفق عليه وفيما فتحه من باب كبير للتطبيع من مدخل المشاركات في الملتقيات العلمية والفنية والرياضية والتجارية وعدها علاقات ضرورية لا علاقة لها بما يحصل في عالم السياسة والقرار السياسي تجاه سلوك الكيان الغاصب للأرض والوطن والإنسان.
في أواخر القرن الثامن عشر شن الفيلسوف روسو هجوما كاسحا على مفكري عصره ودخل في معركة كبرى ضد الفلاسفة من جيله وفي مقدمتهم فولتير وهوبز وأستاذه ديدرو لمناصرتهم الاستبداد الروسي ووقوفهم إلى جانب التسلط التنويري الذي كانت تمثله ” الملكة كاترين ” حاكمة روسيا آنذاك وأطلق عليهم نعوت مشينة من قبيل أوهام النخبة وخيانة المثقف وتنكرهم للمبادئ التي توافقوا عليها والقيم التي كانوا يدافعون عنها لبناء مجتمع جديد ..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى