صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب: ‘البرباشة’ من ظاهرة اجتماعية معزولة إلى واقع صعب وخيار دولة..

slama-4
كتب: نوفل سلامة

البرباشة‘ مصطلح لصق بفئة اجتماعية من أبناء الشعب التونسي تعيش على هامش المجتمع، وفقدت سند الدولة وتدخل هياكلها لضمان حياة كريمة لها وبدأت تتشكل في شبكات مترابطة لتتحول إلى ظاهرة اجتماعية لافتة تتكون من أفراد من الجنسين..

هذه الفئة من المجتمع قررت ألا تعتمد على الحل الجماعي، وتتجاوز حالة العجز التي تأسرها وتكبلها وأن تعتمد على الحل الفردي وعلى ذاتها لكسب المال اللازم لشراء مستلزمات الحياة بالتخصص في البحث في أكياس الزبالة والنبش في القمامة التي يُرمى بها، والتفتيش في حاويات البلدية على ما يمكن بيعه في أماكن معروفة وأسواق أسبوعية تعرف باسم أسواق الخردة كسوق العصر وسوق سيدي عبد السلام وغيرهما.

ظهور ‘البرباشة’

يرجع كل من اشتغل على هذه الظاهرة البدايات الأولى لظهور جماعة ‘البرباشة’ إلى فترة التسعينات من القرن الماضي عندما تجرأ بعض الأشخاص المنحدرين من فئات اجتماعية فقيرة، أو التي تعيش تحت مستوى خط الفقر على تجاوز الحرج المجتمعي والوصم الذي من الممكن أن يوجه إليهم وبدأوا ينشطون في التنقيب في حاويات الزبالة لجمع ما يقدّرون أنه يصلح للبيع مما يجدونه في القمامة من ثياب قديمة وأواني الطبخ المستهلكة وأشياء أخرى قديمة ترك استعمالها ولم تعد صالحة.

توسّع المجال

ومع الوقت تطور هذا النشاط وتوسع مجاله وكثر الناشطون فيه حتى تحول إلى مهنة يختص بها جانب من الشعب التونسي وسكان الأحياء الفقيرة وتحول من مجرد البحث عن أشياء يمكن بيعها لمن يحتاجها إلى عملية نبش وفرز وجمع لكل ما يمكن رسكلته من النفايات وتحديدا كل ما له علاقة بالمواد البلاستيكية. وتزايد هذا النشاط بعد الثورة ليتحول إلى عمل شبكي تتداخل فيه أطراف عديدة ومهنة دائرية تبدأ بالبرباشة لتمر بالوسطاء الذين يتقبلون ما يتم جمعه وتنتهي بالمصانع المتخصصة في إعادة رسكلة هذا المجموع.
والطريف في الموضوع أن ظاهرة ‘البرباشة’ وموضوع النبش في النفايات وإعادة رسكلة ما يتم العثور عليه من مواد قابلة لإعادة التصنيع والاستعمال قد عرفتها حضاراتنا وثقافتنا العربية الإسلامية حيث نجد في كتاب البخلاء للجاحظ نصا يتحدث فيه عن بخيل من بخلائه اختص في نبش ” الكساحة ” وهي القمامة وبيع ما يعثر عليه من مواد قابلة للرسكلة وإعادة الاستعمال يقول : ” … وكان أبو سعيد المدائني ينهى خادمه أن تخرج الكُساحة من الدار، وأمرها أن تجمعها من دور السكان وتلقيها على كُساحتهم فإذا كان في الحين – بعد الحين- جلس وجاءت الخادم ومعها زبّيل، فعزلت بين يديه من الكساحة زبيلاً، ثم فتشت واحدًا واحدًا، فإن أصاب قطع دراهم وصرة فيها نفقة والدينار أو قطعة حلي فسبيل ذلك معروف. وأما ما وجد فيه من الصوف فكان وجهه أن يباع إذا اجتمع من أصحاب البراذع وكذلك قطع الأكسية وما كان من خرق الثياب فمن أصحاب الصينيات والصلاحيات وما كان من قشور الرمان فمن الصباغين والدباغين، وما كان من القوارير فمن أصحاب الزجاج وما كان من نوى التمر فمن أصحاب الخشوف وما كان من نوى الخوخ فمن أصحاب الغرس وما كان من المسامير وقطع الحديد فللحدادين وما كان من القراطيس فللطراز وما كان من الصحف فلرؤوس الجرار وما كان من قطع الخشب فللأفاكين وما كان من قطع العظام فللوقود وما كان من قطع الخزف فللتنانير الجُدُد وما كان من أشكنج فهو مجموع للبناء ثم يحرك ويُثار ويخلل حتى يجتمع قماشه ثم يعزل للتنور وما كان من قطع القار بيع من القيّار.. ”

تأصيل ظاهرة ‘البرباشة’

فهذا النص القديم من تراثنا العربي الإسلامي يؤصل لظاهرة البرباشة و الأفراد الذين اختصوا في النبش والتفتيش في النفايات للعثور على ما يمكن إعادة استعماله وبيعه في عملية حديثة أطلق عليها اسم الرسكلة والتدوير لتفادي الإضرار بالمحيط والبيئة وكل ما من شأنه أن يهدد المناخ ويلوث الطبيعة في عملية اقتصادية وصناعية متطورة، يقول الغرب أنه من جاء بها وابتكرها والحال أن الجاحظ قد تحدث عنها منذ قرون وإن كان قد ذكرها في سياق حديثه عن البخلاء إلا أنها تؤرخ لظاهرة عرفها المجتمع العباسي في القرن الرابع هجري.

ظاهرة منتشرة في دول أخرى

والطريف الآخر أن هذا النشاط لا تختص به بلادنا فحسب وإنما هي ظاهرة تعرفها العديد من الدول العربية وإن كانت تحت مسميات مختلفة فمثلا في المغرب يطلق على من يتعامل مع حاويات القمامة بـ”الهباشة ” وفي مصر يسمون ” بالنباشة ” ونجد في بلدان أخرى تسميات أخرى وكلها تسميات لتوصيف وضعية شرائح اجتماعية تعيش وضع الهشاشة وتفتقد لرعاية الدولة لها وتوجد على هامش المجتمع ساهم نشاطها في ظهور شكل جديد من أشكال التشغيل الهش والأعمال الطفيلية الخارجة عن رقابة الدولة غير أنها تضم عددا كبيرا من الأفراد المنضوين تحتها يقدر عددهم في بلادنا حسب آخر إحصائية بعشرة آلاف شخص فرضوا أنفسهم على الجميع مما تعين الأمر معه أن تتدّخل الدولة لتنظيم هذا القطاع المتعب لأصحابه والذي لم يعد يليق بالمواطن ولا بصورة الدولة حين تترك جزءا من أفرادها يقتاتون ويرتزقون على ما يجدونه في مصبات القمامة وهم يقضون الساعات الطوال في نبش وفرز ما يلقى من زبالة خاصة فيما تعلق بالجانب الصحي والأمراض التي من الممكن أن تصيبهم جراء ملامستهم للأوساخ والجراثيم وما تتعرض له المرأة التي تنشط في هذا القطاع من أعمال عنف، تحرش ومضايقات…

طبقة اجتماعية متكاملة!

ما هو مطلوب اليوم بعد أن تحولت عملية التقليب في الزبالة وقضاء الساعات في حاويات الفضلات المنزلية من عمل فردي معزول يقوم به بعض الأشخاص للبحث على ما يمكن بيعه من مواد ملقاة إلى ظاهرة اجتماعية أخذت في التوسع والتمدد بعد أن كثُر عدد الأفراد الذين يطلق عليهم اسم ‘البرباشة’ وباتوا يشكلون طبقة اجتماعية تعمل ضمن القطاعات الهشة وخارج النشاط المنظم وبعيدا عن رقابة الدولة ومسؤوليتها، هو التدخل للرفع من المستوى الاجتماعي لهذه الفئة والعمل على إدخالها في مسالك العمل المقنن الذي يحفظ كرامتهم ويوفر لهم دخلا محترما وسن القوانين الملائمة والضامنة لحقوقهم والمحافظة على صحتهم وإخراجهم من حالة الضرورة التي فرضت عليهم اللجوء إلى مثل هذا النشاط.

تجاوز حالة الإنكار..

ما هو مطلوب اليوم هو الاعتراف الرسمي بأن هناك فئة من الشعب تستحق حياة كريمة وأن الدولة تتحمل مسؤوليتها في إنهاء حالة الإنكار واللامبالاة في التعامل مع هذه الظاهرة والقطع مع سنوات كثيرة من التجاهل الرسمي لمهنتهم ولأدوارهم الاجتماعية التي أضحت مهمة في علاقة بالمجال البيئي.
الجديد في هذا الملف هو أن هناك اليوم بداية تفكير جدي في كيفية الأخذ بيد هذه الشريحة الفقيرة من الشعب التي خيّرت الاعتماد على النفس لتحسين الوضع العائلي بدل امتهان التسول واستجداء عطف المارة للحصول على بعض المال اللازم للحياة، وهناك اليوم إرادة حقيقية من الدولة لإدماجهم في مسارات منظمة ومقترح لإحداث شركة أهلية تعنى بالنفايات على غرار إحداث مؤسسات صغرى لجمع وفرز وتثمين هذه النفايات وربما هناك حلول أخرى، لكن المهم هو إخراج هذه الفئة من الشعب من حالة الضرورة والعجز الاجتماعي الذي اضطرهم إلى العيش مع حاويات الكساحة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى