نوفل سلامة يكتب: استئناف حركة الاجتهاد الديني أي معنى وأي فائدة؟

كتب: نوفل سلامة
نقرأ في بعض الصحف السيّارة مقالات تتحدث عن فريضة الاجتهاد الفقهي وعرض لـ مفهومه وتاريخه وأركانه التي حفلت بها المدونة الفقهية والأصولية وضرورته في حياة المسلم حتى يحافظ الإسلام على خاصيته كونه صالحا لكل زمان ومكان وقادرا على مسايرة قضايا العصر من خلال مواكبته لكل جديد في الحياة…
مواكبة مستجدات العصر
ونقرأ كذلك دراسات معمقة في مجلات مختصة تدعو إلى ضرورة استئناف حركة الاجتهاد الديني من أجل مواكبة مستجدات العصر المتسارعة وتقديم إجابة دينية لمختلف القضايا التي أقرتها المتغيرات العالمية والمحلية المتلاحقة.
وهذه الدعوات التي تصدر لإحياء عملية الاجتهاد الديني تفترض أن تكون هناك حالة من العطالة في العقل المسلم وأن حركة أعمال العقل في المسائل الحياتية المستجدة بأدوات من الفقه ومن علم أصول الفقه ونصوص الوحي قرآنا وسنة قد توقفت وأن مجتمعاتنا تعيش حالة من القطيعة مع كل رابط ديني لحياتنا المعاصرة ما عدا ارتباطها بموروثنا الفقهي الديني القديم، وما ورثناه ونقل إلينا عبر مئات المؤلفات الفقهية في مجال العبادات والمعاملات وحوتها كتب الفقه وأراء علمائنا القدامى.
رأي فقهي شرعي
وهذه العودة اليوم للمطالبة باستئناف حركة الاجتهاد الديني تفترض كذلك أن حياة المسلمين لا يمكن أن تستمر وهي تواجه كل المتغيرات والمستجدات من دون رأي فقهي شرعي يحقق قدرا من الاطمئنان والأمان لشرعية المسائل التي فرضت نفسها علينا وتمكين الدين من البقاء حيا ومن التجدد وتجديد نفسه مع كل تغير في أحوال الناس وتطورها ويفترض أنه لا يمكن أن نعيش حياة في إطار من الدين من دون استئناف حركة الاجتهاد الفقهي.
المشكل الذي يعترض عملية إحياء الاجتهاد الديني ودعوات للعقل المسلم حتى يواكب كل جديد في الحياة والتفكير فيما تتطلبه الحياة المعاصرة من قضايا تحتاج بذل الجهد في التفكير والتدبر وإيجاد الحلول المناسبة، في الإجابة على سؤال كيف يتم استئناف عملية الاجتهاد الديني في وقتنا الحاضر؟
أو كيف نفهم بذل الجهد العقلي لاستنباط حكم شرعي ديني في قضية من القضايا المعاصرة في سياقنا الحضاري الذي نحياه؟ هل يتم ذاك بالعودة إلى المذهب الفقهي أو ما يسمى بالاجتهاد المذهبي المقيد بآراء الفقهاء ومنهجية القياس والاستئناس بالآراء القديمة وبناء حكم جديد معاصر؟
أم نذهب نحو الاجتهاد المطلق المحرر من كل عودة إلى الفقه القديم وهنا نكون قد اخترنا الانطلاق في عملية إصدار حكم عقلي فقهي في الحادثة والمستجدة من خلال التعامل المباشر مع النصوص المؤسسة لاستنباط الحكم الشرعي المناسب لها.
جدل عقيم
يقول المفكر والفيلسوف مونتسكيو في كتابه ” تأملات في تاريخ روما ” أنه من الأسباب التي أثرت بقوة في سقوط روما وسرّعت بزوال إمبراطوريتها انشغال العامة والساسة والرهبان بنقاش لا فائدة ولا منفعة منه في الوقت الذي جهز فيه المسلمون أنفسهم لغزو أوروبا لقد انشغل رجال الكنيسة بنزاع زعزع أركان حكم روما حتى سقوطها…
لقد انشغلوا بالإجابة على سؤال ما هو الحكم الذي نصدره على من عارض استعمال التماثيل وتواجدها في الكنائس و انغمسوا في جدل عقيم حول السماح بها أو منعها وأقيمت محافل دينية للنقاش حول مسائل العقيدة الفرعية الجزئية، و تشاجروا حول حرمة وجواز استعمال الصور في البيوت ودور العبادة وتنازعوا حول مسألة النور الذي أحاط بجسم المسيح في جبل طور هل هو مخلوق أم أزلي…
لقد اهملوا شؤون الدنيا و انغمسوا في الواجبات الروحية والقضايا الغيبية الصعبة التي لا طائل من الخوض فيها، لقد تظاهروا بالحكمة ورجاحة العقل وتخلوا عن مشاكل الدنيا و أقدموا على جدل عقيم حول طبيعة الخالق وهو لغز حجب سره عن العارفين فكانت النتيجة أن سيطر المسلمون الأتراك السلاجقة وأصبحت خيول جيوشهم على أسوار مدننا واجتاحوا بسرعة لم يسبق أن رأى التاريخ مثيلا لها على أجزاء كبيرة من آسيا وتوجهوا نحو الشمال حتى وصلوا حدود فرنسا ودول أخرى…”
فضاء الدجل والأوهام
يفهم من كلام هذا المفكر وهو أحد أركان عصر الأنوار وعصر الحداثة الأوروبية وهو يتحدث عن أسباب زوال الإمبراطورية الرومانية وزوال حكمها بعد أن سيطرت على العالم القديم لعصور طويلة، وملكت الدنيا و كانت فيها سيدة العالم أن الأمم حين تتخلى عن الاهتمام بقضاياها المصيرية وتغفل عن الانشغال بالأمور الكبرى وتهدر طاقة إعمال العقل في القضايا التي تجعل الإنسان أسير قضايا فرعية جزئية غير مجدية للحياة وتدخله إلى فضاء الدجل والأوهام، فيدّب الضعف في روح الأمة فتهوى وتتراجع حتى يحصل الانهيار الكامل وهذا الاستنتاج يجرنا ونحن نتحدث عن أهمية استئناف عملية الاجتهاد الديني الإسلامي إلى القول إذا كان هناك اليوم من فائدة في هذا الإحياء وهذا الاستئناف وهذه الانطلاقة المطلوبة للاجتهاد الديني فيجب أن يكون كل الجهد للعقل الفقهي المسلم منصبا على القضايا الاقتصادية المتشعبة والمسائل المالية التي هي عصب الحياة وطريق التقدم.
اليوم المجالات التي تتعب الحكومات والشعوب هي المجالات التي لها علاقة بالتنمية و قضايا البطالة والفقر والتهميش وتحقيق العدالة الاجتماعية المفقودة وتوزيع الثروة الوطنية توزيعا عادلا بين الجميع واستفادة كل فرد بنصيب من هذه الثروة بالعدل والإنصاف وبالتساوي .. اليوم المجالات التي تتطلب بذل جهد عقلي من منظور ديني هي مجالات الاقتصاد والمال والمشاريع والاستثمار وطرق خلق الثروة وتحقيق الرفاه للشعوب..
تنشئة صحيحة
اليوم هناك قضايا حضارية وعلمية كبرى ومسارات بحث علمي شاسعة ونظريات نظم تربية وتعليم متطورة هي المدخل لتكوين الوعي وصناعة النخب وبناء المستقبل ونشأة الإنسان نشأة صحيحة تحتاج الكثير من التفكير والكثير من التدبر وإعمال العقل للوصول إلى أرقى وأفضل المناهج والوسائل لتحقيق الريادة والتفوق والقوة..
ونحسب أن مشاركة العقل الفقهي للمسلم في هذا النقاش وهذه المواضيع مفيد وضروري حتى نعيد الاعتبار للانتماء للوطن ونعيد فكرة التطور والاجتهاد لصالح المجموعة الوطنية ومن اجل عزة الوطن وتقدمه، ومن أجل نقلة حضارية نحتاجها لاستعادة مكاننا بين الأمم ونسترجع موقعنا في حركة التاريخ التي تعرف اليوم صراعا محموما بين الأمم المتقدمة من أجل البقاء في سباق العلم والمعرفة والريادة.