الصريح الثقافي

مكتبة الكتاب بـ المتيولفيل: حفل توقيع مجموعة قصصية بحضور مؤلفتها فاطمة العسيلي وناشرها هادي دانيال

انتظم مساء يوم الثلاثاء 21ماي2024في فضاء مكتبة الكتاب – متيولفيل، بالعاصمة التونسية حفل توقيع المجموعة القصصية “صداع” للكاتبة التونسية “فاطمة العسيلي” بحضور العشرات من صديقات وأصدقاء الكاتبة خاصة…

واللافت أنّ حفل التوقيع هذا قد يبدو غريبا من نوعه لأنه يخص توقيع آخر ثلاثين نسخة متبقية من الكتاب في مخازن دار ديار للنشر التي كانت قد أصدرت المجموعة القصصية المذكورة.

وتمثلت وقائع الحفل الذي بثته مكتبة الكتاب على المباشر الخاص بها، تمثلت بأن الكاتبة قدمت للحضور الشاعر هادي دانيال مدير دار ديار للنشر الذي بدوره قدم مداخلة تضمنت دافع الدار لإصدار هذه المجموعة القصصية، وأبرز مزايا هذه المجموعة التي شجعت الدار على إصدارها، قرأت الكاتبة القصة الأولى من المجموعة “بقايا طفولة”، ودعت من يرغب من الحضور لاقتنائها والحصول على توقيع الكاتبة على نسخته. وبعد أن قدمت الكاتبة باقة ورد لناشر كتابها، تسابق الحضور في جو حميم إلى اقتناء النسخ المتبقية من كتاب “صداع” والاصطفاف لتوقيعها من طرف المؤلفة الدكتورة “فاطمة العسيلي”.

وفي ما يلي مداخلة الناشر هادي دانيال في هذا الحفل:

أن يُقدّمَ ناشِرٌ كتاباً صدرَ ضمن منشورات دار النشر التي يديرها في حفل توقيع مكرّس لهذا الكتاب كما هو حاصل الآن، فالمُنتظَر منه أن يتحدّث عن دوافع نشر الكتاب الذي هو بصدد تقديمه لا أن يُضجِر الحضورَ الكرام بقراءة نقديّة تقتضي الموضوعية أن تأتي على مزايا ونواقص النصّ موضوع النقد.

لذا أشير في البداية إلى أنّ دار النشر عندما تكون مشروعا ثقافيا تأخذ على عاتقها اكتشاف المواهب الحقيقية وتقديمها بعيدا عن الحسابات التجارية، وفي هذا السياق أعتز بأنني منذ بعثنا دار ديار سنة 2016 والتي تحولت إلى دار الشنفرى سنة 2021 راهنّا على اكتشاف المواهب في الشعر والسرد خاصة وأصدرنا الكتاب الأول لشاعرات من سورية وتونس أصبحنَ أصواتا وازنة في المشهد الشعري العربي وليس في سورية وتونس فقط كما هو حال الشاعرتين التونسيتين سامية ساسي ومفيدة الصالحي والشاعرة السورية رماح بوبو، وفي القصة القصيرة أعتز بأننا أصدرنا الكتاب الأول للقاصة التونسية الدكتورة فاطمة العسيلي، هو المجموعة القصصية التي تحمل عنوان “صداع”.

هذا طبعا في ظلّ مناخٍ عامّ يشهد تطيّراً منقطع النظير عند الناشرين والمكتبيين عندما يقترح مؤلفٌ على ناشر مخطوط مجموعة شعرية أو مجموعة قصصية أو عندما يقترح ناشر على مكتبيٍّ عَرْضَ مجموعة شعرية أو قصصية للعرض بقصد البيع، ذلك أنّ المتعارف عليه الآن أنّ هذين الجنسين الأدبيين مُستبعدان تماما من حسابات الناشرين والمكتبيين التجارية، هذه الحسابات التي يُفْتَرض أن لا تتصدّر أولويات أي مشروع ثقافي. ومع ذلك فالمفارقة هنا ربما أنّ مجموعة “صداع” القصصية لفاطمة العسيلي والمجموعتين الشعريتين لمفيدة الصالحي وسامية ساسي هي الكتب الأكثر مبيعا وقد نفدت أو بصدد النفاد بين إصدارات دار ديار. ولعلّها سابقة أعتز بها أيضا أننا بصدد حفل توقيع للنسخ الأخيرة المتبقية من إصدار دار ديار لمجموعة “صداع”.

وعندما نقول الأكثر مبيعا، فالأمر هنا نسبي، أي نسبةً إلى مبيعات إصداراتنا الأخرى، لأنّ خطنا التحريري يهتم بتوفر الشروط الجمالية والمعرفية لإصداراتنا، لا بتوفر شرط الإقبال التجاري كقلة الأدب وحصد الجوائز المغشوشة المُضلّلة، ولا أعني بقلة الأدب البعد الأخلاقي بل البعد الأدبي لغة وأسلوبا وبناء جماليا.

إنه كتاب صغير الحجم، يضمّ عشر قصص قصيرة وقعت في 64صفحة. لكن بعد قراءته ستجد أنه مكثّفّ كالجنس الأدبي الذي ينتمي إليه، وأنّه ككل عمل إبداعي جادّ وجيّد يشعّ أسئلةً تدعوك إلى أن تعود وتقرأه مرارا تماماً كما تلحّ عليك مجموعة القصائد الجيدة.

عندما اقترحت علينا الدكتورة “فاطمة” مخطوط كتابها الأوّل لم نستغرب أنها قادمة إلى حرفة الأدب كما يسميها القدماء وإلى كتابة القصة القصيرة تحديدا من مدارج الكليات العلمية ومخابر الصيدلة ذهبت مخيلتي إلى فضاءات تؤثثها غرف العمليات ومباضع الجراحين والأسرّة البيضاء وتعبق بروائح الأدوية وأنين المرضى، ومن تلك الفضاءات طرق ذاكرتي على الفور أنّ الروسي “أنطون تشيخوف” كبير كتاب القصة القصيرة في العالم عبر الأجيال، و”يوسف إدريس” كبير كتاب القصة القصيرة العرب، و”عبد السلام العجيلي” أحد أبرز كتاب القصة القصيرة في بلدي سورية جاؤوا إلى هذا الجنس الأدبي الصعب من الطب البشري تحديداً.

وعندما قرأت مخطوط “صداع” تأكدت من أنّ تفاؤلي كان في محلّه. فالكاتبة الحاصلة على شهادة دكتوراه في الصيدلة و تعمل حالياً على تقييم ملّفات الأدوية الكيميائية بالمخبر الوطني لمراقبة الأدوية، هي أيضاً على دراية بأنّ أبرز العناصر المكوّنة للقصة القصيرة هي الإطار المكاني/الزماني، الحدث، وجهة نظر الكاتب بصيغة المتكلم أو الغائب أوالسارد العارف، الفكرة الرئيسية، تسلسل الأحداث إلى الذروة، الذروة أو الحدث الأكثر تشويقا، وأخيرا حل عقدة القصة. وهذه الدراية تبرز في القصة الأولى (بقايا طفولة) التي تحرص أيضاً على خصائص القصة القصيرة كالإيجاز في الأحداث وترك انطباع أو تأثير واحد على القارئ، والإيجاز في عدد الشخصيات والنهاية المفاجئة المتمثلة هنا في أنّ تسلسل الأحداث كانت ترجّح أنّ حصول “البطل” على النقود سيقوده إلى قطعة الحلوى المنشودة في متجر العم سالم، لكنّ قفلة القصة الصادمة كانت أنه ” أخذ القطع النقدية واتجه مسرعا إلى متجر العم سالم، وقف بكل ثقة وأخرج النقود من جيبه: “عم سالم، أعطني علبة سجائر”.

عندئذ يجد القارئ نفسه إمّا يعيد قراءة القصة أو يستذكر أحداثها ليلاحظ أن الكاتبة قدمت له إشارات وألقت إليه بمفاتيح توحي بهذه النهاية، وبذكر الإيحاء نتوقف عند الأسلوب الذي يدفع بقصص “فاطمة العسيلي” إلى تخوم الشعر واقتحام تلك التخوم بقوة أحيانا، مما يجعل من قصص “صداع” نموذجا للتدليل على التقاطع في الأسلوب والبناء الجمالي أحيانا بين القصة القصيرة وقصيدة النثر.

وإذا كانت (بقايا طفولة) تتوفّر على حدث وحكاية موجزة فإنّ معظم القصص المتبقية تكوّنت من شُهُب سرديّة، تضيء وتنطفئ، وعلى القارئ الذي استمتع باللغة المجازية والأسلوب الرشيق إن اعتمد الجمل القصيرة أو الدائرية في جميع إضاءات الشهب السردية، على القارئ بعدئذٍ أن يستمتع بما بعد اللغة حيث تتجلى الإشراقات الشعرية الساحرة.

بل إنّ الشاعرة سرداً أو الساردة شعراً “فاطمة العسيلي” أتحفت هذا الجنس الأدبي بعبارات وصفية مثل (خرجتْ من المنزل بهدوء وقفتْ تنظر حولها، أسرابٌ من الناس المتدافعين تهرولُ مسرعةً هاربة فوجدت نفسها وسطهم كغصنٍ صغير اقتلعته الريحُ من شجرةٍ وحمله النهر بعيداً عن موطنه، غمره بمياه لم تبلله، أشبعه ضربا بصخوره المتناثرة هنا وهناك إلى أن مرّ حسّون من فوقه وانتشله من حمم النهر ليكملَ به بناءَ عشّه..ص48-49) التي تذكرنا بعبارات الكاتبة الرائدة في استخدام تيار الوعي كطريقة للسرد الإنكليزية فرجينيا وولف بكتابها “الأمواج” خاصة وبالجمل المجازية على غرار (عاصفة رملية آتية من بعيد تحمل ما تبقى من أهلي …ص56)على غرار الكاتب السوري حيدر حيدر في مجموعاته القصصية مثل “الومض” و”الوعول”.

وعلى عكس السارد التقليدي الذي يطل من نافذة وسيلة النقل ويصف ما يراه من تلك النافذة، فإنّ “فاطمة” ترى بعينِ شاعرةٍ وتصف المناظر التي تطل من النافذة على المسافر القابع داخل وسيلة النقل:

“..حقولُ قمح وأشجار أطلّت من النافذة حاجبة شمساً تتهيّأ للغروب باعثة أحياناً بصيصاً من النور” ص42.

بل قد يكون السرد واقعيا وشبه تقريري أحيانا وفجأة “شُلّتْ حركتها، جحظت عيناها، فتحت فاها، صرخات متتالية تجهل مصدرها، حَسَن والغريب أمامها لا يُصدّقان المشهد، حمامة بيضاء تخرج من فمها تشقّ عُبابَ السماء” ص51.

ولا تدهشك فاطمة العسيلي فقط بأسلوب تيّار الوعي التعبيري المسربل بالرموز، بل أيضا بآراء إزاء مواضيع كونية كالحبّ مثلا:

“الحبُّ هو أن تتخلّى عن معتقداتك ومبادئك لأجلِ مَن تُحبّ. الحُبّ هو أشدّ أنواع الكفر. غثيانٌ وارتعاشٌ في الأطراف ينتابنا حين نُقدِمُ على اقترافه. أن تكونَ مُتَيّما بأدقّ التفاصيل في ذلك الشخص الذي لا يُعجبكَ بتاتاً”.ص57.

هذه الجرأة المبكرة في اللغة والأسلوب والتقنيات والأفكار المبثوثة في النص. هذا النزوع إلى الاختلاف والابتكار والتفرّد منذ النصوص الأولى، هو الذي يشجّع الناشر الذي لم يتحوّل بَعْدُ إلى محض تاجر، على مواصلة الرهان على هذه المواهب كي يربح الإبداع الإنساني في هذا السباق المحموم مع تشييء الإنسان وحيونته.

أخيرا، أبدت فاطمة لي رغبتها منذ مدة على أن نصدر طبعة ثانية من “صداع”، فاقترحتُ عليها أنه من الأفضل أن تتحفنا بالكتاب الثاني لنرى إلى أين يتجه مسار الإبداع السردي لديها، وكيف؟. وأن تتصدر “صداع” مجلد أعمالها القصصية في قادم السنوات، فهي لاتزال في مقتبل العمر وواعدة جدا، ونحن ننتظر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى