صالون الصريح

مصطفى الكيلاني يكتب: غَزَّة، أَيَّتُها المِرْآة!

kilani
كتب: مصطفى الكيلاني

حاولَ التفكِير، ولكنَّ الطائِر الأَسْود الّذِي مَرَّ مِن هُناك، كما تَهَيّأ له، منعهُ مِن مُراقَبَة ذَلِك الطَيْف الجاثِم على الأَكَمَة مُنذ أن تَوَقَّف قَصْف الطائِرات المُغيرة وصمتت فوْهات المَدافع، ولوْ إلى حِين، لِأَنّ لِلطائِر جناحَيْن هائِلَيْن في حجم بوّابَتَيْن لِمَدِينة عَتِيقَة أُسْطُورِيَّة. فَرك عَيْنَيْه لِيَتثبّت مِن أنَّ الّذِي حَدَث قد حَدَث بِالفِعل.

لم يَعُد كما كانَ. ثَمَّة شَيْء مّا قد انكَسَر في الداخل. بَيْن البَرِيق والحَرِيق يرمقه طائِر الفِينِيق، وكأنّه يهمّ بِالهُجوم المُباغت عَلَيْه كَيْ ينتزع منه آخر حُلم تَهاوَى شلوا دامِيًا بِحُروق شتّى…

– هل يَعُود القهقري إلى حَيْث كانَ جالِسا مُنذ ساعَة تقريبا كَيْ يتخلّص مِن أَذى التِفاتة الطائِر الغَرِيبة؟ فجأة تغَيَّر المشهد: لم تَعُد الأكَمة أكمّةً، وطائِر الفِينِيق استحالَ إلى بُومَة في حجم طائِرَة فنتُوم. العَيْنان الحَمْراوَان تترقّبان فَرِيسَة لَيْلِيَّة، والأَكمة شجرة، والعاصِفَة هَدِيرٌ آخر لِبَحر غَزَّة.

سَعَى إلى أن يحلم بِمُفرده كما جَرَت العادَة كُلّما غمَرته مَوْجة قَلق مُباغت. بَيْن البَرِيق والحَرِيق ذبذبات صَوْتِيَّة أَفْقدَتْه الرغبة في أن يَكُون حُلمه مُختلفا، وكَأَنّه سمعَ هاتفا يَقُول:

– ضَاقَ صدر العالم مُنذ هذه اللَّحظَة، وما عادَا بِإمكان الحُلم أن يتّسع لِشَخص واحد…

لم يفهم أو لعلّه أرْجَأ الكارثة إلى حِين.

البُومَة هُناك على الشَجَرَة لا تنعق، بل تُجِيل البَصَر في انتِظار خشخشة لِكائِن مُغامر. صَرِير باب يَفِدُ على حُلم الكِتابَة مِن أبعاد حُلم آخر. تختَلط الصُوَر: الظُلْمة في الخارج والنَفَق المُتهدّم بَعْد قصف الطائِرات لا يُفضِي إلى الخارج عَدَا باب الْتَحم بِالرُكام المُتهاوِي، حِبْرٌ هُنا ودَمٌ هُناك، جُثَّة هُنا تنتظر فَجْرا قادِما وجُثَث هُناك بَيْن الحَرِيق والحَرِيق. سَرَطان أفكار بِلا معنى تَتَناسَل عند جُنون آخر ساعات اللَّيْل وأجساد بَيْن الرُكام والرُكام وتحت الركام. سَواد عاصِفَة تُنْذر بِنَهار لَيْلِيّ قادِم، وكَرنفَال جَرِيمَة لا تَزال في بِدَايَة وُقوعها… كَأنَّ حُلمه المُهترئ يَصْطَدم في الأَثناء بِآخر أحلام الأَطفال المَذْبُوحِين، لِذَلِك تَوَقّفَ حُلمه عن أن يَكُونَ حُلما… لَمْ يَرَ بُدّا مِن أن يُحاول التفكِير في الصَوْت الوافد عَلَيْه مِن الهاتف:

– هل انتَهَى زَمَن الحُلم الفَرْدِيّ بَعْد أن أَضحَى بِالإمكان الدُخول إلى أَحلام أُخرى؟

لِنَتَصَوّر حَياة جَدِيدَة لِأَشخاص يَسْتيقظُون لَيْلا وأَلْسنتهم تلهَجُ بِأَقذَع السِباب والشَتائِم نَتِيجَةَ دُخول أَشخاص آخرِين إلى أحلامهم الّتِي لم تَعُد أَحلاما شخصِيَّة بِحُكم انتِهاك حُرُماتها، كَشَيْخ مُتَطفّل يدخل إلى حُلم شَابّ عاشق أو امرأَة تكتشف أَسْرار امرأة أُخرى مِن بَلَد قصيّ في قارَّة نائِيَّة أو طِفل يُشارك شابّا أو كَهلا البعض مِن حُلم لا يفقه مِنه شَيْئا بِحُكم فارق السنّ.

إمْكان فَوْضَى الأَحلام جَعَلَهُ يَتَوهّم التفكِير في شَيْء مُحَدّد لعَلَّه يَتناسَى، ولوْ إلى حِين، وحشة بَياض الوَرَقة وسُقوط الرغبة بَيْن البَرِيق والحَرِيق.

أعادَ الهاتف نِداء التحْذِير مِن مغبَّة التَوَرُّط في حُلم مُرْسل يفضحه تَدَخُّل حالم آخر في مَكان مَّا قد يَكُون دنيّا أو قصيّا حَسَب التَجاذُبات العَنِيفَة بَيْن اللاقطات الفَضائِيَّة وأجهزة التَنَصُّت وتَدَاخُل الذبذَبات في نِظام اتِّصالِيّ كَوْنِيّ لم يَعُد قادِرا على التَمْيِيز بَيْن شخص مُتَكلّم أو حالم وبَيْن آخر.

أَغْمضَ عَيْنَيْه كَيْ يفرّ، ولو لِدَقائِق مَعْدُودَة، مِن طَيْفها الفانتُومِيّ الهائِل كما يَتراءَى له في شِبه اليَقَظَة على الأكمة أو الشَجَرَة المُقابِلَة بَيْن ظَلام الغُرْفَة وبحر السَواد المُمْتَدّ إلى أَقاصِي الأَرض المُسَيّجَة بِالأَمْواج الهادِرَة وأَعْتَى رِياح شِتاء هذا العام أو ذَاك… سَأَلتْه غُولدا بِخَوْف زَوْجَة غَيْر مُبَرّر رغم هُبوب غيرة مُفاجئة عَلَيْها:

– لِمَاذا تُدِيم النَظَر إلى الخارج عبر نافذة هذا اللَّيْل؟!

أَدْرَك أنَّ وَراء السُؤال رغبة في المُناكَدَة، ولكنَّ الظَرْف لا يسمحُ بِخُصومَة زَوْجِيَّة رُوتِينِيَّة، كما جَرَت عادَة الشِجار كُلمَّا تَطَلَّع بِبَصره إلى أحَد منازل الجِيران. أَعادَ إغماض عَيْنَيْه رغمَ صَوْت غولدا المُسْتَفِزّ. لكنَّ هَمْسا خافِتا جَعله ينتفض لِيَقف بَيْن السَرِير والنافذة المُطِلَّة على سَواد الشارع اللَّيْلِيّ:

– لِمَاذا لا تُرِيد الإِنْصات إِلَيَّ يا عاموس؟!

بَدَا له المَوْقف غايَة في الجدِّيَّة وتَعَجَّبَ مِن ذِكر اسمه رغمَ وُجوده وَحِيدا في الغُرْفَة بَعِيدا عن غُولدا المُتَمَدِّدَة وَحِيدَةً على سَرِيرها في انتِظار أن يُبادر بِمُصالَحتها رغم مُشاجراتها الّتِي لا تنقطع…

– هل غُولدا تُرِيد معرفة ما يَدُور في خُلده؟ لن يَسْعَى إلى مُصالَحتها، بل الأَفضل له أن يكتفِي بِشِجَار البارحة كَيْ يخلُو بِنفسه ويُحاول التفكِير في نزوته الجَدِيدَة.

لَمْ يَرَ بُدًّا مِن إغلاق باب غُرْفَته بَعِيدا عن نَظَراتها في الاتِّجاه الآخر بِدُون أن يسلم مِن شَتائِمها المُقذعة الّتِي لَعَلَّها تُرِيد بها خِصاما آخر قد ينتهي بِتَعْنِيفها وتَكْسِير عَدِيد الكُؤوس والأَوانِي الفَخَّارِيَّة الّتِي يَقَعُ عَلَيْها بَصَره في حَال هَيَجانه الغاضب. الصَوْت الّذِي تَبادَر إلى مسمعه هَمْسا، لَيْس صَوْت غُولْدا بِالتأكِيد، بل هُو صَوْت ذَكريّ، عَلَّه آخر صدى لِقَوْل لهجَ به لِسانه لحظةَ إغماضَة عَيْنَيْه المُفاجئة الّتِي سُرْعانَ ما انقطعت بِصَرِير النافذة المُطِلَّة على لَيْله الغابِيّ، أو هُو ذَلِك الدَلِيل على أنَّ الأَحلام لم تَعُد أحلاما شخصِيَّة كما كانت مُنذ بَدْء ظُهور السُلالَة البَشَرِيَّة.

– لِمَاذا لا تُعِيد النَظَر الآن مِن خِلال زُجاج النافذة؟ أنا هُنا أَرْمقك مِن بَعِيد وأعلم أنّك أنت عامُوس.

انتَفَضَ مَذْعُورا في هذه المَرَّة لِأَنَّ الصَوْت لَمْ يَعُد هَمْسًا. أَسْرَع إلى النافذة. نَظَر إلى الشَجَرَة الّتِي تناءَت عنه قَلِيلا رغمَ المَبانِي القَرِيبة في الاتِّجاه الآخر للشارع، والبُومَة أَضحت خُفَّاشا بِحَجْم هَائِل تَرجْرجَت صُورته في وَمِيض البرق وثَوْرَة الرِيح وخُيوط المَطَر المُنْسَكِب مِن سَماء مُعتمة…

كَأَنّه سَمعَ نَشِيج غُولْدا يَفد عَلَيْه مُتَقَطّعا في زحمة وَساوسه الجَدِيدَة بَعْد أن أطلقتْ جَمِيع ما تحفظه مِن سِباب وشَتائِم، ولم يَتَبَقّ لها إلَّا آخر فصل في مَسْرَحِيَّة الشِجار اليَوْمِيّ، ذَلِك البُكاء المُفْتَعَل عادَة ما ينقضي بِالنَوْم والشَخِير إلى صَباح اليَوْم المُوالِي.

أَحَسَّ بِبَعض الاطمِئنان لِأنّه قد يتأكّد مِن الصَوْت الّذِي يفد عليْه مِن الخارج أو الداخل بَعِيدا عن ثَرْثَرتها حِينما يُغمض عَيْنَيْه مُحاولا التفكِير في انقِلاب مزاجه مُنذ أن تملّكتْه تِلك الرغبة العَجِيبة.

– عاموس!

الصَوْتُ ينبعث مِن مَوْقع قَرِيب مِنه، لَعَلَّه يفد عليْه مِن بَيْن زُجاج النافذة المُطِلّة عَلى سَواد شارعه اللَيْلِيّ.

نَظَرَ إلى هاتفه الجوّال. رُبّما نَسِيه مفتُوحا في آخر مُكالَمة. الضَوْء الأَزرق المُتقَطِّع المُنبعث مِنه يُنَبّه إلى طَلَب مَضَى عَلَيْه أكثر مِن ساعَة. هُو رقم جلعاد.

ما الّذِي يُرِيده في ساعة مُتَأَخّرة مِن اللَّيْل؟

بَدَا صَوْته مُتَلعثما. ولمَّا هَمَّ بِالاستِفسار دَخل صَوْت آخر لِامرأة مُتغنّجَة على الخطّ لعَلَّه لِإحدى بَغَايَا اللَّيْل. أغلَقَ الهاتف في انتِظار مُكالَمة أُخرى لِجلعاد. قد يَكُون لِلْعاصفة تَأْثِير على الخُطوط الهاتِفِيَّة. كُلّ شَيْء مُتوقَّع مادامت الأًصوات لا تتغاير إلَّا بِأَرْقام، وكَذَلِك الأَسْماء.

اقتَرَبَ مِن النافذَة، أزاحَ الستارَة لِيَنظر مِن جَدِيد إلى ظُلْمة الشارع الّتِي تَراءَت له قِطعةً مِن فَراغ أَسْود بِلا أَشكال، كَالّتِي تَهيَّأ له أنّه أَبْصَرَها قبل أن تُذْعن غُولْدَا لِمَوْجَة نُعاس مُباغتة بَعْد يأسها مِن استِدراجه إليْها لِلْمُصالَحة المُعْتادَة على إثْر كُلّ مُشاجَرة.

– عاموس.

هُو ذاته ذَلِك الصَوْت الأَجشّ المُتَقطّع يَنبعث في هذه المَرَّة مِن الداخل، ولكنْ أيّ داخل تَحْدِيدا؟ انطِفاء الكهرباء العامّ ساعَده على التَسَلُّل إلى المَطبخ. مَرَّ مِن أمام غُرْفَتها. سمعَ شخِيرها فَأَدْرَك أنّها في سُبات عَمِيق ولا يُمْكن أن تَسْتيقظ إلَّا عندَ الصَباح. تَلَمّسَ الجِدار المُؤدّي إلى الثلّاجة بِحَذر خَوْفا مِن إحداث صَوْت يُوقظها فَيَسْتَحِيل عَليْه تلبِيَة رغبته الحادِثَة. لم يَتَمالَك نفسه حِينما فَتح باب الثَلّاجة وأمسك بِقطعة اللَّحم. اندَفَع إليْها بِشهيّة عَجِيبة لِينهشها بِوحشيّة لم يعهدها في ذاته. ولمَّا أكملَ الْتِهامها لَسَح أصابعه بِتَلَذُّذ…

عادَ إلى غُرْفَته مُتَلصّصا. قِطعة اللَّحم النَيّئ الّتِي ابتلعَها أعادت له قليلا مِن الطُمأنِينَة… تَشَمَّمَ رائحة الدم المُتبقيَّة في أَصابعه: زفُورَة غيْر مُسْتحبّة رُبّما لِبَدء تَقادُم اللّحم. ولكنْ، كَيْف الوُصول إلى دم حَيّ ساخن يُفاقم مِن شهوته الحادِثَة أو يُطفئ حَرِيقها إلى آخر العُمُر؟!

يَنطفئ اللَّيْل. ينطفئ الحُلم، ولكنّ رغبة عاموس لا تنطَفئ بَيْن البَرِيق والحَرِيق… الكَوابِيس في عزّ الشِتاء لا تَدع الذكريات تَتَجمَّع في غُرْفَته المُطِلَّة على زَمَن العاصِفَة، هُناك عند حُدوث العَطَب الكهربائِيّ وغَرَق المَدِينة في ظُلْمَة بِلا ابتِداء ولا انتِهاء…

يفرك عاموس جَبِينه قَصْد التَثَبُّت مِن كَوْنه على يَقَظَة، وما يَدُور حوالَيْه لَيْس إلَّا مِن قَبيل الهَلْوَسَة: غُرْفَة وأَشياء مُعْتادَة بِحُكم الاستِعمال اليَوْمِيّ ونافذة وسِتارَة تَرْتَعش وسأم نَتِيجَةَ انتِظار قد لا يعني شخصا بِعَيْنه، وغولدَا هِي الوَحِيدَة القادِرَة، إِنِ استيقظت مِن نَوْمها العَمِيق الّذِي يبدُو خالِيا مِن الكَوابِيس، على معرفة سرّ شهوته الجَدِيدَة… ثمّة شبه يَقِين تعلّمه مِن أعْوام خدمته العَسْكَرِيَّة ومَفادُه أنَّ غَرِيزة القَتل في الإنسان تَعُود إلى كَوْنه مَهْوُوسا في الأَصل بِشهوة الافتِراس. سَأَل غولْدَا أُستاذة عُلوم الأحياء ذات يَوْم عن السرّ الطبيعِيّ الّذِي يُفارق بَيْن آكل اللّحم وآكل العُشب مِن الحَيوانات رغم اشتِراك الدّم بَيْنهُما فَأغرقت في إجابَة لم يَرَ فِيها نَفْعا.

وسَأَلَ صَدِيقه جلعاد، قائِد عَمَلِيّات الجوّ، بِهزل لا يَخُلو مِن جدّ:

– لِمَاذا كُلّما أغرقتُ في حُلم يَقظتي الجَمِيل، وأنا في أعالِي الجَوّ أَيْقظتنِي مِنه بِأَوامرك المُباغتة لِتَحْدِيد وجهة قد لا أرْتَضِيها؟

اللَّيْل على أشدّه، ولا حَرَكَة في الخارج.

– عاموس!

يفتحُ عَيْنَيْه بارْتِعاب. يهرعُ إلى زُجاج النافذة كَيْ ينظر مِن خِلاله مَرّة أُخرى إلى طَيْف الشَجَرَة… عَيْناها المُسْتَدِيرتان المائلتان إلى احمِرار مشُوب بِاصفِرار مُقَزِّز، كجذوتَيْن في طَرِيقهما إلى الذبُول، تستفزّان فِيه شهوَة الْتِهام اللَّحم النَيّئ. فَكَّرَ في العَوْدَة مَرَّة أُخرى إلى المطبخ. إلَّا أنّه أَدْرَك فجأة أنَّه لم يَعُد يَسْتَسِيغ لَحْم الخرفان والثِيرَان تُساق مُطمئنّة إلى المَسالخ، بل عليْه أن يبحث له عن لَحم آخر لِكائِن يُفارق الحَياة وهو في حالة ارْتِعاب كَيْ يشرع في الارْتِوَاء مِن دمه عندَ لحظات نزعه الأَخِير، ثُمّ يُعْمل أَنيابه فِيه بَعْد أن يَسْتَحِيل إلى جُثَّة هامدة.

وكُلَّما جَادَلَ غُولْدَا في مَآل الإنسان الطَبِيعِيّ حرصت على أن تُؤَكّد له بِالبَراهِين العِلْمِيَّة أنَّه سَيَظَلّ آكِلا للنبات واللَّحم إلى آخر لحظة في وُجود الإنسانِيَّة، واعتبرت الحَضارَة نتِيجَةً حتمِيَّة لِهَذه الصِفَة المُزدوجة، فَلَوْ كانَ عاشِبا لانْقَرَض مُنذ أوّل جَفاف، أو لاحِما فَحسب لَضَاقَ به الوُجود، فَأهلك الأَنسال جَمِيعها لِيهلك هُو أَيْضا قبْل أن يتحوّل مِن الحَيوانِيَّة إلى الحضارَة.

سَأَل جلعاد في إحدى مُناسَبات الضحك الجادّ:

– أَيّ الحَيوانات تَراه جَدِيرا بِالاحتِرام؟

ولِأَنَّ جلعاد عاشق لِلْخُيول لمْ يَرَ هُو بدّا مِن التَصْرِيح بِمَيْله إلى الأُسود والجَوارح.

– عاموس!

لا يُعقل أن يصدر هذا الصَوْت عن بُومَة بكماء، لَعَلَّها تَقِف في الاتِّجاه المُقابل لِغُرْفَته.

اللَّيْل. تَعَلَّم مِن أساتذته في أَكادِيمِيَّة الطَيَران العَسْكَرِيَّة أنَّ اللَّيْل هُو سَاتِر كُلّ الآثام والجَرائِم. قَصْف الطائِرات لَيْلا أفضل مِنه نهارا رغم الدَمار الّذِي يظهر في ساعات النهار الأُولى، شأن بَقايَا الرِيش والجلد والعظام وقَطرَات الدّم في الصَباح الّذِي يَلِي لَيْل الافتِراس.

حَاوَل الهُروب مِن الصَوْت والإِخلاد إلى ضجعة مُباغتة بَعْد تناول حَبّة مُنوِّم. رائِحَة الدّم لا تُفارق أصابعه.

بَيْن الظُلْمة في الخارج وزحمة كَوابِيسه الّتِي لم يستطع تَذَكُّرها في صَباح اليَوْم المُوالِي غَزَّة امرأة ثكْلَى تفرّ بِأَطفالها إلى البَحر خَوْفا عليْهم مِن طائرته الفانتُومِيَّة. وبحر غَزَّة يَتراءَى في الأَثناء مِرْآةً شِبه مُعتمة تَرْتَعِش أمْواجه بَيْن البَرِيق والحَرِيق.

(غَزَّة كَمَا تُرَى مِن بَعِيد قَرِيب- شِتَاء 2008)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى