صالون الصريح

مصطفى الكيلاني يكتب/ “اُصْمت لِأَرَاك!” ﻟِ أُسَامة حمري: “بيْن جَفْن الحَيَاة وجفْن المَمَات’

Mustapha kilani
كتب: مصطفى الكيلاني

-1-

قَرأتُ مَجمُوعَة الشاعر التونسي أُسَامَة حمري “اُصمُتْ لِأَرَاك!”* الصَادِرَة عن دَار الشَنفرى للنشر في هذه الأَيّام فَلَفَت انتباهِي حدُوث لحظة شعرِيّة نَادرة، لحظة فارِقَة حَيْث التَقَى الكَلام والصَمْت، بِضَرْب مِن الصَمت النَاطق شِعرا لا كَأَيّ شِعر…

وبِمعنى الشِعر الّذِي لم تَعْتَدْ عَلَيْه ذَائقَةُ التَقَبُّل، نَتِيجَةَ تَوَغّل الكِتَابَة في الّلا-معقُول أحيانا كَثِيرَة وتجريب السَيْر في مهامِهِ العبث والتَقَلُّب داخل عتمة التَطَلُّع إلى الأَبْعد الأَبعد في قيعان الظلّ حَيْث ارتِبَاك الوجه والقنَاع، حتَّى لكأَنَّه لا حِسّ ولا مرجع لِحِسّ عَدَا دوالّ مُتَفَرِّقَة بِدَلالَات مُتَفارقَة استلزمَ سياقُ الحَال الكَاتبَة المَهوُوسَة بِغَائم الانكِتَاب جمعَها أو نظمهَا التقرِيبِيّ في سياق، بل سِيَاقَات تِدلالِيَّة تَشِي بانقِضَاء الشِعر والوعد الضمنِيّ بِمِيلادِ شِعْرِيٍّ رافضٍ لِأَيّ استِرْخَاء للحوَّاس وتَشَابُه الرَغَبَات.

-2-

شِعْرُ أُسَامَة حمري في نُصوص كُلٍّ مِن “لِلْأرْزة ذَاكِرَة” و “الأقلِّيَّات الّلا-مرئيّة”، اختِلافا عن نُصوص “التَقيْتُ بِحَاضرِي”، آخر أجزاء مجمُوعَة “اُصمُتْ لِأَرَاك”، هُو كائن أَدَبِيّ مُسَجَّى مجازا ينتظر، بِفَارغ الحَال المُنكتبَة تَدَاعِيات لا الكاتبة بِفَائق القصد، وبِمَا لِلْفَرَاغ أَيْضا مِن إمكَان ازدحام المُبهم في النفس، دَفَنه لِيُوَارَى تُرَاب العادة ويختفي عن ثَابت وُجود القَوْل المُتَكَرِّر، ومعنى السَماع/معانِيه بِصِفَةٍ أَبَدِيّة، تَارِكا مِن خلفه “سِيزيف” الشَاعر أو الشَاعر “سيزيف” يدفع صخرته كَلاما في هاجرة وُجود الصَمْت أو صَمت الوُجود، بَاحثا له عن أُفُق لِكَلام آخر ورُؤيَة أُخرى، ذَلِكَ أَنَّ لِلْأَمر حُكمَهُ القطعيّ (“اُصمُتْ”!)، ولِلْقصد دَلالَته بِمَفَاد الرُؤيَة أو الرؤيَا(لِأَرَاك). إلّا أنَّ الرُؤيَا هِي الأَقرب إلى ذهن المُتَقبّل مِن الرؤية، وذَلِكَ بِعيْن القلب تحدِيدا، لا عيْن العيْن، وبِمَرجعيّة فهم آخر لاشتِغَال حَاسَّتَيْ السمع والبَصر، كَأَن تحدث الرُؤيَة لحظَةَ يبدأ الصمت، ويستَبِدّ عمَى الأُذُن حينمَا يعلُو صَوْت الكَلام ويَسُود.

-3-

لِأُسَامَة حمري في “اُصمُتْ لِأَرَاك!” لَوْمٌ خاصّ مِن لَعِب الكِتَابَة شِعرا يتخَطَّى ثابت شعرِيَّته إلى الأَبعد مِنه، وإلى الأَعمق، كما أَسْلفنَا، بِمُختَصَر الشعرِيّ. وهذا اللَّعب لا نَرَاه يكتفِي بِمُطلَق الأَنَا، إذْ يحرص على مُخَاطَبَة الضَمِير الآخر تسمِيَةً بِ “أخيل”، البَطَل الأُسطورِيّ الإغرِيقِيّ القَدِيم، اتَّخَذه الشَاعِر استِعَارَةً لِوَصْف حَاله، وهو المُتَرَدِّد في أوّل الطَرِيق بَيْن أن يَكُون شَاعِرا مُختَلِفا وبَيْن أن يَكُون شَاهدا على مَوْت الشِعر ومِيلاد الشِعْرِيّ، سَلِيل الشِعر والمُختَلِف عنه بِوَافر الأَسَالِيب ومُتَغايِرها.

مُشكلَة الحَال، كما تترَاءَى لنا في لَحظَةِ كِتابَة جُلّ نصُوص “اُصمُتْ لِأَرَاك!” أنَّهَا في مُفتَرَق السُبُل، فَلا هِي قَاطِعَة تَمَاما مع القَصِيدَة بِمَدْلُول تُرَاث الشِعر العَرَبِيّ، ولا هِي مُوغِلَة في عَوَالِم الشعرِيّ، وإنْ أعلَنَت انتِصَارهَا في ظاهر الدَلالَة/الدَلالات للشِعر على القَصِيدَة، ولِإمكَان الشِعْرِيّ على الشِعر، ولِكَلام الصمت على باهت الكَلام…

-4-

تُشبه الكِتَابَةُ/الانكِتَابُ في “اُصمُتْ لِأَرَاك!” لِأُسَامَة حمري قطرة حِبر تَقَع في مَاءٍ بِإنَاءٍ، حَسَب تشبِيه النفس البَشَرِيّة بِتَصَوُّر كارل غوستاف يونغ. فَللنفس، بِهَذَا التشبِيه الحِبْرِيّ، تَشَكُّلهَا الظِلّيّ، بل الظِلالِيّ، إذْ كُلّمَا ذَهَب الشَاعِر في تَوْصِيف تَوَالد حَالاته المُلْتَبِسَة المُعتَمَة ازدَاد كَلامُه صَمْتا، وصمْتُه إعتَاما. ومَفَاد المشهد الاستِبطانِيّ المَوْصُوف بَحْرٌ هائل مِن ظلال، ولا طَيْف لِسِوىً، إنْ بِمُطلَق الغَيْرِيّة، أو بِمَخصُوص اﻟ “أنِيما” (anima) حَيْث حضُورُ طَيْف لِأُنثَى، حتَّى لَكَأَنَّ الكِيَان في داخل المشهد المَوْصُوف صحراء مُتَرَاميَة الأَطرَاف، بِلا أوّل ولا آخر، وبِلَيْل دَامِس عَمِيم، كما لا طَيْفَ ﻟِ صِنْوٍ هُو صِنْوُ إِنّيّ الشَاعر، تحديدا.

وكَأَنَّ الشاعر لاعِبٌ طفل في بَدْء طفُولَته لا يُفَارق وعيا بَيْن ذَات اللَّاعِب واللَّعب واللِّعْبَة التِي هِي مِرْآةُ رُوحه الأُولى النَاشئَة.

-5-

يَنْكَتب الشَاعر أكثر مِمَّا يَكتب، إذَنْ، وهو يحلم في الأَثناء شِعرا. ينكَتب بِتَدَاعيَات شبه هَذَيانِيَّة، مَدْفُوعا بِرَغبَةٍ مُبهمَة، هِي رَغبة حُلميّة أو لائذَة اضطِرَارا لا اختِيَارا بِالرَغبة الجَامحة في اللّواذ بِمَا هُو حُلمِيّ.

وَبِتَمَادِي الرَغبة في استمرار الحُلم كِتَابَةً وانكِتَابا يُومِض وجه الأُنثَى، الشَجَرَة، القطّة، بِمُختَصَر أنُوثَة عَمِيمَة مُكَثّفَة، “بِالمَرأة الّتي علّمت البحر-كيف يسكن-والّتي غزلت بِكلامها كِتَّانَ الغَرَام-الشجرة الّتي سلّمت عليك-بِيَدٍ عَاريَة…” (ص 25).

إنَّ لِلْأُنوثَة، هُنَا، سحرهَا، سحريَّتهَا، اقتِدَارهَا على التَحَوُّل مِن “امرَأَة” إلى “شجرَة”، ومنها إلى “قِطَّة”. كما قد تَتَبدَّى الأُنثَى رغبَة، والرغبة أُنثَى حُلمِيَّة، لَعَلَّهَا الوَجه الآخر المَوْصُول بِفِقدَان أُنثَى واقعيّة.

وإذَا الأُنوثَة وَجْهٌ لِلْامتِلاء في عالم فراغيّ قَبِيح مُزدَحِم بِظلال الأَسَى. والأُنوثَةُ هِي مبعث إمكان الفَرَح في النفس الشَاعِرَة. ولِلْأُنوثَة رمزيّة المَاء، ولكنَّ المَاء يظلّ حبيس لحظةِ “اليَوْم الحِدَادِيّ”:

“فتحتُ الحَنفِيَّة

لم أَجد ماء

يَبْدُو أنَّ المَاءَ صَامِتٌ

فَاليَوْمَ حِدَادٌ وَطَنِيّ” (ص 31).

-6-

الكِتَابَةُ أُنثَى، والأُنثى ماء، رَغبَةٌ تَطفُو على سطح الدَلالَة الشِعْرِيَّة وتخفت أحيانا. والكِتَابَةُ كما الأُنُوثَة إشرَاقَةٌ نَاحلَة في عَمِيم فَرَاغ العالم وقُبْحه الصَادم المُمضّ.

فَلَا أَمَل، إذَنْ، بِالكِتَابَة. ولا إمكان لِلْكِتابَة إلّا بِالاستِعَارَة، بِالرمز، بِالإيجَاز، كما لا إمكَانَ لِتَحَمُّل قبح العَالم إلّا بِمُمَارَسَة فنّ اللّوَاذ بِاللَّحْظَة، بِحِذْق إدارَة حَال الانهِمَام، والتَنَقُّل الصَامت بَيْن الأَزمنة، والانتِظار، والتَلَهِّي عن الانتِظَار كَيْ لا يستحِيل هُو الآخر إلى قَلَق أَشدّ وأَمَضّ.

فَيَقِينُ الشاعر أَخِيرا أنَّه كائن أَرْضِيّ،. ولَيْس له إلّا أن يحلم بِما هُو مُمْكِن مُتَاح وضعا، ويتقبّل حَقِيقَةَ هذا الوَضع، ويرتضِي له مآل الكائن الإنسان الإِنِّيّ انفِرَادا عُزلَةً يُتْما انفِصَالا بَعْد اتِّصَال، كَمُخَاطَبَة إِنِّيّ الشاعر للشَمْس:

“كَانَ بِوِدّي أنْ نَكُون أَصدقاء

ولَكنَّ لِي لُغة مِن مَاء

ولَكِ لُغَة مِن نَار

لا أَنَا مُخطئ

ولا أنتِ مُخطئَة

فَلنفترق في صَمْت

فَإِنَّ الصَمْتَ يُذِيب جَلِيدَ الكَلام” (ص 45).

———-

*”اصمت لأراك”. أسامة حمري. شعر. دار الشنفرى للنشر، تونس2024.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى