محمد المُحسن يكتب: بورقيبة لم يسلم من بطشه..لا اليساري ولا الإسلامي ولا البعثي..

كتب: محمد المحسن
لمن خانته ذاكرته أقول أن العاصمة الفرنسية باريس شهدت سنة 2013 تدشين النصب التذكاري للزعيم بورقيبة في قلب العاصمة الفرنسية في ذكرى استقلال تونس*، و بعيدا عن خفايا هذه المبادرة الفرنسية و أهدافها، إلاّ أنّها أعادت إلى السطح شخصية بورقيبة ودوره في استقلال البلاد و في الحركة الوطنية..
محاكمة بورقيبة
ولكن البعض منا، وأقصد بالتحديد – راكبي سروج الثورة في الساعة الخامسة والعشرين – اختاروا أن يكون عيد الاستقلال مناسبة لمحاكمة بورقيبة و فترة حكمه و لم ينظروا إلى الفترة البورقيبية كمرحلة تاريخية لها حيثياتها و ظروفها الموضوعية وتناسوا – عن سوء نية – مكتسبات دولة الاستقلال في الصحة و التعليم و بناء مؤسسات الدولة و مجمل المنظومة القانونية و التشريعية والمؤسساتية و مستوى التحضر و الوعي السياسي الذي بلغه التونسيون مقارنة ببعض الدول التي تشبهنا أو تفوقنا في الامكانيات.
وهنا أقول: لم أكن في حياتي،”بورقيبيا” ولا “نوفمبريا” ولم أركب حصان الثورة لأركض في مضمار الإنتهازيين،بل طاردتني مخابرات-النظامين-( بورقيبة وبن علي) ودفعت ثمنا باهضا “لمراهقتي” الثورية-…
بعد ما يسمى تعسفا على الذكاء الإنساني-بـ “الربيع العربي” أدنت أيضا بكل عقوبات جهنم من لدن “دعاة النضالية” وزعماء الطابور الخامس..وهذا موضوع آخر يستدعي الحبر الغزير..وسأتولى الكتابة عنه إن بقي في العمر بقية..
الزعيم ‘الأوحد’
وهنا أضيف: لم يكن الزعيم الراحل بورقيبة ملائكيا ويذكر التاريخ أنه نكل بخصومه بقسوة،وقمع اليوسفيين معارضيه اللدودين،وعلى رأسهم صالح بن يوسف الذي ناله الرصاص الغادر بجينيف( سويسرا) كما لم يسلم من بطشه،لا اليساري ولا الإسلامي،ولا البعثي..إلخ،بعد أن نصب نفسه الزعيم الأوحد والقائد الذي لا يسأل عما يفعل..غير مكترث بدماء الشهداء ممن دافعوا عن استقلال تونس بالظفر والناب..!..تربع على الحكم وجثم على رقاب الجميع..
لكن.. متى كان الفعل السياسي ملائكيا؟ ومنذ متى كان الحكام العرب من سلالة الأنبياء..؟..ومن هنا،لايجوز إلباس الماضي برداء الراهن إن أردنا استشراف المستقبل برؤية تنأى عن المشاحنات والمناكفات السياسية التي تصب الزيت على النار،و” تبدع” في التصريع..بمعنى إثخان الجرح ورش الملح عليه بدل لملمته وتضميده.،فالتونسي اليوم مريض بما مرضت به البلاد من احتقان وعنف تجاوز كل الحدود المتعارف عليها في مجتمعنا.
والمتتبع لما يكتب وما ينشر خاصة على صفحات التواصل الاجتماعي التي أصبحت تشكل بلا منازع المرآة العاكسة لكل انفعالات التونسيين والتونسيات يلاحظ بسرعة علامات التشنج الواضحة في الخطابات وفي السلوكيات من كل الأطراف بدون استثناء..
وبين واقع إجتماعي و إقتصادي صعب و سلطة تهب رياحها دون أن تسقي رحيق أحلام شباب الوطن وماء المتوسط الهادئ،آثر آلاف الشباب البحر واختاروا الهجرة بحثا عن مرسى لأحلامهم التائهة،قبل أن يكتشفوا أن للكون حافة و للأرض منتهى يقود للهلاك أين إنقلبت مراكبهم و إنغمرت أمنياتهم بأمواج الموت التي حفظت مسارهم و إقتاتت مراكبهم لسنوات عديدة.
ما أريد أن أقول ؟
أردت القول،أن السياسي عليه أن ينظر إلى المستقبل و يعالج مشاكل الحاضر الحقيقية و يترك الماضي للخبراء و المختصين لفحصه و بحثه.مشكلتنا الحقيقية أنّنا نستهلك كثيرا من الوقت للحديث عن الماضي و لا نتحدث عن المستقبل و استحقاقات الحاضر بل بعضنا يطنب في الحديث عن الماضي هربا من الخوض في تحدّيات الحاضر الصعبة،وتداعياته المؤلمة..
الكل يهرب من الواقع المؤلم،يحتضن طموحاته مرغما ويمضي بها.
من اعتقد أنّ الدين هو الحل لحلحلة الملفات العالقة ارتدى جلبابا “أفغانيا” وأطال لحيته وانتهى إلى أنّ الديمقراطية كفر وضلال..!
أما الذي يرى في “البروليتاريا” قوّة ضاربة وقادرة على ترجيح الكفّة لصالح الفقراء والجياع فانبرى ينظّر ويرمي -اللوم-جزافا على الناخبين الذين لم يهدوا له أصواتهم،وأشاحوا بوجوههم عن برامجه”الثورية الواعدة”..موضّحا أنّ الطريق إلى جهنّم مفروش بحسن النوايا..
البعض منا أصيب بالفصام أيضا : يصفّق -للنهضة-صباحا..وينتصر للقوى التقدمية عند المساء..!..وقبيل النوم يلعن بورقيبة ويكفر بن علي،ثم يلعن ثانية أم الإنتهازيين وخالاتهم من الرضاعة..والأمم المتحدة..وكلّ قوى الخراب في هذا الكوكب الأرضي الكئيب..
خلاصة القول…
أرفض منطق العدميّة السياسية فلكل مرحلة انجازاتها و اخفاقاتها و على البعض أن يعي الفرق بين الاختلاف والعداوة مع رجال تلك الحقبة..ألم يكن بن علي يخاف بورقيبة حتى وهو ميت و كلنا يتذكر ما حصل في جنازته التي غيّبتها تلفزتنا الوطنية حينها حيث كانت تبث باستمرار مشهد غروب الشمس..!
وإذن ؟
غربت شمس بورقيبة،وأفل نجم بن علي،وظلت تونس تضيء على الجميع..وما علينا والحال هذه،إلا أن نترك-أمواتنا-نائمين في مرقدهم الأزلي،ونفسح المجال للمؤرخين لصياغة التاريخ برؤية تحليلية-نقدية تنأى عن السباب،التخوين والتكفير..
وكل عام وتونس ترفل في ثوب التحرير،والتحرر من قيود الماضي اللعين..