فنون

لم تعد لدينا وزارة للثقافة..صارت لدينا وزارة للشؤون الموسيقية؟

كتب: عز الدين الباجي

يخيّل إليك، وأنت تتابع المشهد الثقافي الرسمي في تونس، أن وزارة الشؤون الثقافية قد تخلّت عن جوهر دورها، وارتدت ثوبًا ضيقًا على مقاس ذكرى، أو لحن قديم.

لا حديث عن السينما، ولا أثر للمسرح، ولا نبض للفنون التشكيلية، ولا رؤية للكتاب، كأن الثقافة – بما هي بنية رمزية جامعة – قد اختُزلت في أغنية واحدة: عين المحبة، تلك التي كتبها الشاعر عبد المجيد بن جدو، ولحّنها الموسيقار الراحل قدور الصرارفي، والد الوزيرة الحالية.

كان له دور

ولا غبار على قيمة هذا الأخير، فقد كان عازفًا بارعًا، وملحنًا صاحب نَفَس، وقائدًا لفرقة المعهد الرشيدي، ثم لفرقة الإذاعة في بداياتها. وكان له، دون شك، ما يُحفظ في الذاكرة التونسية من مآثر فنية خالدة.
لكن الذكرى حين تتحول إلى سياسة، والإرث العائلي حين يصير بوصلة مؤسسة، تفقد الثقافة وظيفتها العمومية، وتغدو أسيرة الحنين ومأسورة بالقرابة.
إن المأزق الحقيقي لا يكمن في تكريم اسم، بل في حجب الأسماء الأخرى، وتغليب الخطاب التمجيدي على الفعل الثقافي الحقيقي، وفي أن تُدار الوزارة وكأنها تظاهرة شخصية طويلة، لا جهازًا جمهوريًا يُعنى بإدارة التعدد، وضمان التنوع، وحفظ التوازن بين الفنون والجهات والأجيال.

وزارة الشؤون الموسيقية؟

لقد تحوّلت وزارة الشؤون الثقافية، في عهدها الراهن، إلى ما يشبه “وزارة الشؤون الموسيقية”، بل إلى نادٍ خاص يحتفي بماضٍ قريب، أكثر مما يصنع أفقًا بعيدًا. وها هي القطاعات الثقافية كلها، من المسرح إلى السينما، من الكتاب إلى المهرجانات، تشكو الغياب، وتئنّ تحت ثقل الإهمال، بعد أن انفضّ عنها الساهرون، وضاقت بها السبل. ما من دعم يُذكر، ولا سياسة تُبنى، ولا خيال يُستشرف. مجرد برامج مناسباتية خاوية، تُزَيَّن بحفلات فيها من البذخ أكثر مما فيها من الرؤية، ومن التصفيق أكثر مما فيها من الإبداع.

الوضع خانق

وبات الوضع خانقًا، لا لأن الثقافة تنهار فحسب، بل لأن الخوف تمدد داخل الألسنة. لم يعد أحد يجرؤ على النقد، أو حتى على الإعجاب الصامت، خشية أن يقع في مرمى المتربصين.
صارت الكلمة عبئًا، والإشارة تُحسب، والهمس يُرصد، جيوش من المتملقين يتعقبون الأصدقاء في خانة الإعجاب، لا ليباركوهم، بل ليكتبوا تقاريرهم الرمزية في صفحات التواصل، وليرفعوا صكوك الولاء على مذبح الكرامة. لقد صار التعبير عن الرأي مخاطرة وجودية، وصار الصمت نفسه فعل مقاومة.
إن الثقافة التونسية تعيش اليوم خريفها الإداري، حيث لا ربيع يُبشَّر به، ولا خريطة ثقافية تضع للفنون موقعًا، ولا إرادة سياسية تُعيد للوزارة هيبتها الرمزية ووظيفتها المركزية. وليس بمقدور عين المحبة أن تحجب هذا الخراب، ولا أن تُجمّل هذا العطب. فقد صارت الحاجة ملحّة لإعادة التفكير في موقع الثقافة داخل الدولة، لا باعتبارها ترفًا مناسباتيًا، بل شرطًا من شروط المعنى والوعي والسيادة.
فإما أن تُستعاد وزارة الثقافة كوزارة لكل التونسيين، أو تُترك لتذوب شيئًا فشيئًا في ذاكرة فردية، تظن أن الموسيقى تُغني عن الفكر، وأن اللحن يُعفي من المشروع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى