عيسى البكوش يكتب/ 150 سنة عن تأسيس المدرسة الصادقية..و 120 سنة عن انبعاث جمعية قدمائها

كتب: عيسى البكوش
يمرّ هذه الأيّام مائة وخمسون عام على تأسيس المدرسة الصادقية ومائة وعشرون عاما على انبعاث جمعية القدماء بإرادة من مجموعة من الروّاد انبثقت عن خريجي المدرسة وقد ناهز عددهم آنذاك الستمائة وعرفت بلجنة ” المبادرة” وكان مقرّرها المحامي علي باش حانبة…
ومن المفارقات العجيبة أنّ باش حانبة ولد سنة واحدة بعد تأسيس المدرسة على يدي الجنرال خير الدين باشا سنة 1875.
إنّ المتأمل فى تاريخ تونس خلال القرن التاسع عشر هذا القرن العصيب كما ينعته الاستاذ المنعّم محمد الهادي الشريف لا بدّ ان تعترضه باستمرار شخصية فذّة تلقي بظلالها على أوضاع البلاد في الحال وفي المآل..
مسيرة خير الدين التونسي
وهي شخصية هذا الفتى القادم من القوقاز عبر اسطنبول والذي أحب تونس كما لم يحبّها أحد من المناوئين الملتفين حول العرش الحسيني والذين كللت “مساعيهم” بعودة الرجل الهمام الى… اسطنبول.. إن مسيرة خير الدين التونسي جديرة بأن ترسّخ فى سجل رجالات العصور الحديثة كنموذج للمصلح قولا وعملا، إذ انه أشفع كتابه المأثور ‘أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك’ بأثر لم تنقطع مزاياه ولا نفذ عطاؤه منذ 150 عاما.
شخصية فريدة
إنّه ليكفينا النظر في هذا الإعلان الذي أمضاه الوزير الأكبر خير الدين في الرابع والعشرين من ذي الحجة الحرام سنة إحدى وتسعين ومائتين وألف لكي نتعرّف عن كثب على وجه من أوجه هذه الشخصية الفريدة والتي جمعت بين الاستشراف في الفكر والدقة فى الفعل.
” الحمد لله الوزارة المصونة تعلن بما يأتي: المدرسة الصادقية بالحاضرة المحمية ستفتح ان شاء الله تعالى للتعليم في العشرين من المحرم الحرام فاتح شهور العام الجديد المبارك عام اثنين وتسعين ومائتين وألف وهي معدّة لتعليم القرآن العظيم والعلوم النافعة الشرعية بوسائلها والمعارف السياسية على مقتضى تراتيبها الممضاة من الحضرة العالية ويقبل فيها من التلامذة من كان في سنّ سبعة سنين الى تمام خمسة عشرة عاما هذا في السنة الأولى وهي سنة 1292هـ .
أما فيما بعدها فيقبل من كان في سن السابعة الى سن العشر وجملة من يقبل فيها مائة وخمسون تلميذا مائة من أهل الحاضرة وخمسون من أهل الآفاق التونسية وهؤلاء التلامذة على صنفين: الصنف الاوّل يقيمون بالمدرسة ليلا ونهارا والدولة تتكفل لهم بجميع ضرورياتهم مجانا وعدد هذا الصنف خمسة وثلاثون من أهل الحاضرة وعشرون من أهل الآفاق والصنف الثاني يأتون للتعليم نهارا ويبيتون عند أهلهم وعددهم مائة سبعون من أهل الحاضرة وثلاثون من آهل الآفاق والدولة تتكفل لجميعهم بضرورة التعليم فقط مجانا فمن أراد ان يعلم ولده او قريبه بالمدرسة المذكورة فليقدم الى ناظرها اسمه واسم التلميذ مع بيان سنه ومحل سكناه وما يختاره من الاقامة بالمدرسة أو الاتيان اليها نهارا للتعليم ومن ليس له ولي فليأت الى المجلس البلدي ليكون دخوله للمدرسة على طريق المجلس البلدي والمجلس يقدم اسمه ومحل تقييد الأسماء المدرسة من قبل الزوال بثلاث ساعات الى الزوال في مدّة نهايتها شهر من تاريخ هذا الإعلان ويقدم الأسبق في التقييد إذا اجتمع الأسماء أكثر من العدد المطلوب وهو المائة والخمسون تلميذاً. وكتب في الرابع والعشرين من ذي الحجة الحرام سنة احدى وتسعين ومائتين وألف.
امضاء المولى الوزير الأكبر خير الدين
تصقل عقول الناشئة
اذن بعد 30 عاما من تأسيسها وبعد ان أضحت المدرسة الصادقية معلما تصقل بين جدرانه عقول الناشئة ومنارة تشعّ منها أنوار الحداثة تمكنت من علي باش حانبة ورفاقه رغبة في تمتين عرى الصداقة بين كافة الخريجين وذلك من خلال القيام بأنشطة ” ترمي الى غايات تتناسب وما يمكن أن يرجى من مثل تلك النخبة”.
يقول الأستاذ أحمد عبد السلام عند تعرّضه لنشأة جمعية القدماء في كتابه المرجع “الصادقية والصادقيون”: ” لقد كانت غاية علي باش حانبة ومن معه تغيير عقلية التونسيين لتمكينهم من العيش مع مختلف الجنسيات التى وفدت الى بلادنا وإزالة الاحترازات المسبقة التي تفرق بين التونسيين والفرنسيين وإحلال التقدير المتبادل مكانها”.
تحقيق النهوض
على ضوء هذه العينة من التقرير التأليفي الذي صاغه علي باش حانبة على منوال ما يُعرف بشرح الأسباب يتبين لنا أنّ الرجل كان يعتقد انه يمكن فى ظل الحماية تحقيق النهوض الفكري والثقافي للأمة والانخراط بواسطة قواها الحية في حركة الحداثة وقد بارك ممثلو الحماية هذه «النوايا» بما أنّ المقيم العام بيشون سارع بالمصادقة على تكوين جمعية القدماء وهنا يجدر بنا أن نذكر بأنه بعد الفترة الاولى من المقاومة التي تلت دخول الجيوش الفرنسية سنة 1881 هبّ جمع من المثقفين لإثناء فرنسا عن مسعاها الذي تأكد منذ اتفاقية المرسى سنة 1883 في تحويل الحماية الى استعمار حقيقي وطالبوها بالالتزام بنص معاهدة 12 ماي 1881.
هكذا حاول على باش حانبة ورفاقه في حركة الشبان التونسيين من خلال جريدتهم «التونسي» وهكذا انطلقت حركة الزعيم عبد العزيز الثعالبي مؤسس الحزب الدستوري سنة 1920 وأخيرا الملحمة التي قادها اشهر الصادقيين الحبيب بورقيبة والتي توّجت فيما بعد بتحرير البلاد من ربقة المستعمر أولا ثم من براثن التخلف الاقتصادي والاجتماعي وذلك بعدما اصطدم بالحقيقة الساطعة والعنيفة للاستعمار منذ تأسيس الحزب الدستوري الجديد سنة 1934.
وهذا فعلا ما حصل لـ علي باش حانبة الذي أفاق يوم السابع من شهر نوفمبر عام 1911 على اولى الأحداث الدامية في العاصمة، وبالتحديد بالزلاج حيث دفع الأبرياء ثمنا غاليا لتعلقهم بأرضهم أرض الأحياء والأموات وأعدم المنوبي الجرجار والشاذلي القطاري حتى يكونا عبرة لمن يعتبر من الوطنيين الخُلص ثم كانت واقعة الترامواي في فيفري سنة 1912 حيث اضرب التونسيون على ركوبه فسلطت قوات الحماية جام غضبها على علي باش حانبة ورفاقه واعتبرتهم رأس الفتنة فأبعدتهم واجبر باش حانبة للتحول إلى المنفى في فرنسا أوّلا ثم الى اسطنبول حيث استقر به المقام تماما مثل خير الدين باشا…
ولقد بعث من هناك رسالة الى الاستاذ خير الله بن مصطفى أوّل رئيس للجمعية جاء فيها بالخصوص : ” إنّ من الاشجار شجرة يمكن كسرها ولكن يستحيل أن تنحني فاعذرني اذا كنت شبيها بها” (المعمرون الفرنسيون وحركة الشباب التونسي لـ شارل أندري جوليان).
غطرسة المستعمر
وهنا يجدر بنا والجدل قائم في فرنسا حول المزايا أو الجوانب الايجابية للاستعمار أن نستدلّ بسيرة علي باش حانبة وما تكبد وهو الذي درس في الجامعة الفرنسية وحرص على التوفيق بين الثقافتين الفرنسية والعربية فنال جزاء سنمّار وأفنى عمره القصير (42 عاما) وقد صدمته غطرسة المستعمر التي هي في نهاية التحليل سمته الاساسية التي تطغى على كل الجوانب الاخرى فمهما حاول المتسلطون على التاريخ فإنهم لن يفلحوا في طمس مجازر سطيف في الجزائر و تازركة في تونس وغيرها في البلدان التي دخلها الاستعمار تحت غطاء التحديث والانخراط في الحضارة.
جيل الاستقلال
لقد طويت الصفحة الأولى من كتاب جمعية قدماء الصادقية بعد ثلاثة عقود من المد والجزر ثم انخرطت في حركة التحرير إذ ترأسها أحد رموز الحزب الجديد الطاهر صفر، وأضحت منذ ذلك التاريخ أحد معاقل النضال الوطني والتحم أبناء الصادقية مع أبناء الزيتونة في كفاح مشترك ضد المستعمر وضد الجهل والأمراض الاجتماعية. فكانت المحاضرات والندوات والدروس والأنشطة الاجتماعية وكان ميلاد الشبيبة المدرسية في رحم هاته الجمعية وذلك يوم 19 مارس 1934. ولقد أدرك جيلي جيل الاستقلال كلّ ذلك لمّا كنا نرتاد هذا المبنى القائم الى يوم الناس في نهج دار الجلد عدد 13.
فكنا مدينين للأوقات التي قضيناها بين تلك الجدران والتي كانت مؤشرا للبعض منا للانخراط في النضال الطالبي في باريس وبالتحديد في مبنى تاريخي آخر متواجد بشارع سان ميشال عدد 115 وهو مقر جمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين والتي كانت جمعية قدماء الصادقية من بين رعاته الماديين.
واليوم وقد غزا الشيب مفرقنا لنا نحن معشر الصادقيين أن نقف إجلالا لكلّ من علمنا الحرف والكلمة وصقل معارفنا في فصول هذا المبنى الشامخ فوق هضبة القصبة.(1)
———————————————
(1) لقد انتخبت صحبة الصديق الأستاذ الشاذلي بن يونس الرئيس الحالي للجمعية ضمن الهيئة التي انبثقت عام 1987 بعد سبات طال لأكثر من عقدين، وها أنا أعود من جديد إلى الهيئة بعد 30 عاما إذ كنت غادرتها سنة 1993 ولكن الذي علق في وجداني هو إهدار فرصة تاريخية للإقرار بتميّز مدرّسيها، فلقد أعددنا في تلك الفترة مذكرة تولى رئيسنا آنذاك المنعّم الطيب السحباني تقديمها إلى رئيس الدولة وهو الوحيد من غير الصادقيين الذين تداولوا من قبل ومن بعد على قصر قرطاج لغاية جعل المعهد الصادقي معهدا نموذجيا على غرار معهد كارنو ولكن لم تحض رغبتنا بالقبول على الرغم من تواجد عدد هام من الصادقيين في دفّة الحكم … باستثناء وزير التربية آنذاك، ولعلّ هذا يفسّر ذلك.
وإنّنا نذكر بكلّ اعتزاز كلّ من ساهم من السلف الصالح وفي مقدّمتهم الصادقي الحبيب بورقيبة باني الدولة الحديثة في غرس روح البذل فينا حتى أصبح ديدننا من نهج سنان باشا الى نهج الصادقية حيث مقر الاتحاد العام لطلبة تونس (1969- 1971) “إنّ النضال وحده هو الذي يعطي معنى للحياة”.