صالون الصريح

عيسى البكوش يكتب: مائويّة الموسيقار صالح المهدي (1925-2014)

issa bakouche
كتب: عيسى البكوش

هو ثالث ثلاثة إلى جانب العلمين خميس ترنان (1894-1964) ومحمّد التريكي (1900-1998) الذين برزوا في سماء الفنّ خلال القرن العشرين لمواصلة المسيرة التي انطلقت منذ القرن الذي سبقه، والتي خطّها الموسيقار أحمد الوافي (1850-1921).

البدايات

هو صالح المهدي المولود بتونس في 9 فيفري 1925 لأبيه عبد الرحمان الذي كان له تأثير في توجهه إلى الموسيقى وهو ينحدر من أصول جزائرية ولأمّه فاطمة ابنة الشيخ صالح الشريف.
حفظ الطفل صالح نصيبا من آي القرآن ثمّ كان الانطلاق إلى جامع الزيتونة حيث كان من أترابه الشهيد حسين بوزيان والمنعّم زكرياء بن مصطفى. ولقد أطلعني هذا الأخير على صورة جمعت ثلاثتهم وهم طلبة بالبيت المعمور.

درس الحقوق

إثر تخرّجه من التعليم الثانوي التحق بكلية الحقوق فانتدب إثر هذه المرحلة من التعليم العالي قاضيا وذلك يوم 21 نوفمبر 1951 عندئذ وهو المهووس بالفنّ بفضل ما تلقاه سوى لدى والده أو بالمعهد الموسيقي بنهج زرقون، ولكي يواصل نشر فصوله النقدية على صفحات الجرائد اختار اسما مستعارا: زرياب.
وزرياب هذا هو أبو الحسن علي بن نافع المولود قرب الموصل في العراق سنة 789 والمتوفى بقرطبة سنة 857، ولقد أقام وهو في طريقه إلى الأندلس مدّة في بلاط الأغالبة بالقيروان، وهو صاحب الوتر الخامس الذي أضافه إلى العود الشرقي.
وفي هذا المجال يقول الأستاذ سليم ريدان في كتابه ‘موسيقى التوشيح’ الصادر بتونس سنة 2007: ‘إنّ قضيّة الوتر الخامس ما زالت إلى حدّ الآن محلّ خلاف بين المختصّين’.

أطلق أسماء عليّة ونعمة وسلاف

وعلى ذكر الأسماء المستعارة فالجدير بالتذكير بأنّ مترجمنا هو الذي أعطى للمطربات بيّة الرحّال وحليمة الشيخ ودلندة الخضراوي الأسماء التي عرفن بها في عالم الغناء أي عليّة ونعمة وسلاف.
ولقد لحّن لهنّ كمّا هائلا من القطع التي لا تزال تطرب سامعيها على مرّ الأجيال وما هي إلا جزء من مدوّنته التي تحتوي على قرابة ستمائة من التراكيب الموسيقية التي استنبطها من كلّ الأنماط: موشّحات وبشارف ونوبات وسيمفونيات.

مئات الألحان

لقد لحّن لأغلب الأدباء في تونس وكان أوّل لحن جمعه مع الفنانة صليحة هو:
مريض فاني طال بي دايا … العين كحلة هذوبها كوّايا،
وهي لـ عثمان الغربي وهي في طابع المزموم، ثمّ لحّن لها من شعر محمد المرزوقي:
حبّيتها ما لقيت منها منجى … جادولها حايل صعيب الولجه
ثمّ ” يا خليلة” من كلمات علي عامر.
ومن نظم عبد المجيد بن جدّو(1918-1994)
” دار الفلك من بعد طول العشرة …. والدهر حال بحال مرّة بمرّة ”
من غرّ بينا يجيه وقت يغرّه …. واللي جرى على الناس يجري عليّا”
وقد لحّن له أيضا: ” الزين هذا لواش” و ” يا ناسي ليلي من فراقو طال” و”النور فيك تلاح”.
ومن نظم محمود بورقيبة (1909-1956) لحّن صالح المهدي ما لا يقلّ عن 10 أغاني من أشهرها ” أيّامي الوديعة” و” يا مداوين الناس وينو دوايا ” و” يا اللي إنتي روح الروح” و” الدنيا هانية واحنا فيها” و” يا ما قلبي يطير ويجنّح “.
ومن شعر شيخ الأدباء محمد العربي الكبادي (1880-1961) لحّن مترجمنا قصيد “ليت شعري أيّ شيء دفعك … لتضيعي مغرما ما ضيّعك”.
ومن نظم مصطفى آغا (1877-1946) قصيد:
” خدع البدر والغزل فقالا … أنت كالبدر والغزل جمالا”
أخيرا وليس آخرا من نظم محمد الجموسي (1910-1982) الأغنية الوحيدة التي لم يلحنها هذا الفنّان الشاعر بنفسه: ” الليل آه يا ليل … جيت نشكيلك”.
ومن كلمات أحمد خير الدين نظم المهدي في نغمة الرست:
” نظرة من عينيك تسحرني …. ونظرة تخيّب ظنّي فيك”
كما لحّن له عدّة أناشيد وأغاني مدحيّة مثل: ” يا سيّد الأسياد ويا رايس الرياس”
أمّا في مجال النوبات فلقد جاء في كتاب المنعّم محمد السقانجي ” الرشيدية” الصادر عن دار كاهية عام 1986 أنّ صالح المهدي قام بتلحين نوبتين: الأولى في مقام العجم:
” لعمري لئن قلّت إليك رسائلي …. فأنت الذي نفسي عليه تذوب”.
أمّا الثانية وهي في مقام الزنكولاه فطالعها:
“وقائلة خلّي الهوى لرجاله… فإنّ الهوى بعد الشيب جنون”.
ويضيف: “لقد قام الأستاذ صالح المهدي بوضع الاستفتاح واللوازم لنوبة الخضراء التي صاغها في نغمة المحيّر سيكا شيخه خميس ترنان وألفها سنة 1957 الشاعر محمد الطاهر القصار.
كتب صالح المهدي في المجلة الصادقية في عدد أفريل 2003: ” لمّا غادر محمد التريكي تونس عام 1969 للعمل في الجزائر واصلت المهمّة التي كان يقوم بها في المعهد الرشيدي، وهي نشر المقطوعات المدوّنة من البشارف والسماعيات التونسية القديمة، ولقد قمت فيما بعد بنشر كلّ ذلك في تسعة أسفار وأعددت كتابا مسموعا مسجّلا على عشر اسطوانات تتضمّن 31 محاضرة مدعومة بشواهد صوتيّة”.

يقول في حديث مع الصديق عبد الجليل المسعودي منشور بالصحف التونسية في 2016 ” ألفت 35 موشحا في شتّى المقامات و7 بشارف و25 سماعي و4 لونقات وكذلك 300 نشيد للشباب والكشافة”.
والمعلوم أنّ زريابنا هو الذي لحّن أوّل نشيد رسمي للجمهورية وهو من نظم الشاعر جلال الدين النقاش :
” ألا خلّدي يا دمانا الغوالي ”
وكان قد لحّن له قصيد عش حالما بالوصال، وأغنية “نظرة من عينيك تسحرني”
كما أنه لحّن رواية “ولاّدة وابن زيدون” التي قدمتها فرقة الكوكب التمثيلي سنة 1945 وهي من تأليف الشاعر عبد الرزاق كرباكة.

مهام متعددة

لقد خلف المهدي شيخه الترنان على رأس المعهد الرشيدي وأصبح رئيسا له سنة 1965 ولقد شغلته هاته المسؤولية إلى جانب وظائفه الإدارية الأخرى في وزارة التربية أوّلا حيث شغل منصب رئيس مصلحة الفنون المستظرفة حيث أشرف على مناهج التدريس الموسيقى في المعاهد الثانوية، ولقد وضع للغرض كتابا عنوانه أصول الموسيقى التونسية في ثلاثة أجزاء، كان الجزء الثالث بالاشتراك مع أحد تلاميذه علي الحشيشة، ثمّ بوزارة الشؤون الثقافية حيث أشرف على بعث العديد من المؤسسات والمهرجانات من أهمّها المعهد الوطني للموسيقى والرقص والفرقة الوطنية للفنون الشعبية والأوركستر السنفوني عام 1969 والمهرجان الدولي للمالوف عام 1967 والمهرجان الدولي للفنون الشعبية عام 1971 الذي يقول عنه الصديق علي بالعربي في كتابه المرجع ” سياسات الثقافة التي نريد” الصادر بتونس عام 2017 وهو يتساءل عن سبب اندثاره: “كان الجمهور التونسي ينتظر موعد هذا المهرجان ليتمتّع بما يقدّم أثناءه من عروض من بلد إلى آخر تعرّف بتقاليد الدول المشاركة من خلال فولكلورها وقد فقد هذا الجمهور هذه التظاهرة” ص218.
ثمّ أصبح من بعد ذلك رئيسا للجنة الثقافة الوطنية وهي التي تتعهّد بالإشراف على كلّ اللجان الجهويّة والمحلية كما كانت تعدّ الاحتفالات المقامة في المنستير بمناسبة ذكرى ميلاد الرئيس بورقيبة.
لقد ساهم في كمّ هائل من المؤتمرات الدولية وانضمّ إلى العديد من الهياكل الدولية المعنية بهذا المجال. فكان يتردّد على فيينا وبرلين والقاهرة واسطنبول لإلقاء المحاضرات في الغرض. ولقد شرف برئاسة الأكاديمية العربيّة للموسيقى مع العلم أنه ألّف كتابا صدر عن الدار التونسية للنشر سنة 1986 يحمل عنوان “الموسيقى العربية تاريخها وآدابها”.

من أبرز عازفي الناي

إلى جانب ذلك يحسن التذكير بأنّ المنعّم العالم كان من أبرز عازفي الناي في بلدنا إلى جانب المنعّم محمد سعادة (1937-2005)، وهو أكاديمي اسما على مسمّى بما أنه تحصّل سنة 1981 على شهادة الدكتوراه من جامعة Poitier في العلوم الموسيقية.
والموسيقى كما جاء في مقدّمة ابن خلدون هي “آخر ما يحصل من العمران من الصنائع لأنّها كماليّة”.
ولقد كنت شاهدا في أواخر ستينات القرن الماضي على انبهار الجمهور الفرنسي عندما أبدع سي صالح وهو يداعب نايه في الحفل الذي أقيم في دار الإذاعة الفرنسية بباريس.

مؤسس الغرفة الاقتصادية العالمية

كما أنّي شاهد من موقعي كشيخ للغرفة الاقتصادية العالمية أنّ الفضل يعود للشيخ صالح في تأسيس الغرفة في الديار التونسية سنة 1961، فلقد كان مؤمنا بالعمل الجمعي التطوّعي ولقد شغل إلى جانب القائد زكرياء بن مصطفى خطّة مساعد رئيس في مجلس بلدية تونس من سنة 1980 إلى سنة 1985.
وعندما أدرك زمن التقاعد لم يتقاعد أو بالأحرى لم ينزو بل بعث ناديا يرتاده كلّ يوم أحد على مرّ السنين الخوالي صفوة من الفاعلين في الزمن البورقيبي من أمثال محمد مزالي ومصطفى الفيلالي وعمر الشاذلي والصادق بن جمعة والحبيب نويرة وحمّادي الساحلي والصديقين علي حمريت وسمير العنابي.
انتقل إلى رحمة الله يوم 12 سبتمبر 2014 وبعد ثلاث سنوات قرّرت الدولة تسمية المعهد الأعلى للموسيقى بتونس باسمه، وذلك يوم 30 ماي 2017.
إنّه ليصحّ في المنعّم المهدي ما جادت به قريحة الشاعر الفذّ عبد المجيد بن جدّو في نعيه لأحد روّاد الصحافة الحبيب شيخ روحه:
” قالوا هوى نجم أضاء ربوعنا
والنجم في عليائنا سيّار
الله بالفردوس أسكن راحلا
يا جنّة سكنت بك الأخيار.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى