عيسى البكوش يكتب/ صليحة (1914-1958): ‘سلطانة’ الطرب التونسي

كتب: عيسى البكوش
فراق غزالي يذبل الرّوح
ويا عين بالدمع نوحي
نبكي والقلب مجروح
من يوم فارقت روحي
“فراق غزالي” ليست أغنية بقدر ما هي سمفونية نظمها شيخ الفنانين خميس ترنان (1894-1964) حيث حبك مقاطعها السبعة حسب المقامات ذات الشجن مثل راست الذيل ومحير عراق ومحير سيكاه والعرضاوي والمزموم، وهي واحدة من الروائع التي نسجتها صليحة بصوتها ذي الثمانية عشر درجة والذي يمتاز في المنخفض كما في المرتفع.
البدايات
هي صلوحة بن عبد الحفيظ ولدت سنة 1914 بدشرة نبّر من أب اسمه إبراهيم وهو جزائري الأصل ينحدر من سوق أهراس وأم تونسية اسمها مباركة الرزقي.
ينتقل والدها بحثا عن شغل من هناك إلى ماطر ثم إلى مدينة تونس حيث يضع ابنتيه صلوحة وعلجية في رعاية أسرة محمد باي شقيق المنصف باي، ثم تتحول صلوحة للعمل لدى الفنانة بدريّة القاطنة بنهج الباشا، وهناك يتم اكتشافها من قبل المحامي حسونة بن عمّار ثم قادتها الأقدار للالتقاء بالفنان الباجي السرداحي وفرقته المتركبة بالخصوص من المرحوم قدور الصرارفي العازف على الكمان (1913-1977) وإبراهيم صالح على القانون وكانت هي مطربة الفرقة تحت اسم ‘سكينة هانم’.
أول ظهور
تبرز سنة 1938 في أوّل ظهور لها بالمسرح البلدي بمناسبة الحفل الذي انتظم على هامش تدشين الإذاعة التونسية، ثم تلتقي بمصطفى صفر (1892-1941) مؤسّس الرشيدية فألحقها بها بعد أن دعا لجنة للسماع إليها وكانت تظم فيمن تظم خميس الترنان ومحمد التريكي.
ويقول محمد السقانجي (1938-1990) في كتابه عن الرشيدية الصادر عن دار كاهنة سنة 1986 : “لاحظ أعضاء اللجنة أنها وفّقت في أداء أغنية ” بالله يا حمد يا خويا يا راكب العتيد” وأنّ صوتها جميل فـ تعاقدت معها الرشيدية بمرتب شهري قار وخصّصت لها مسكنا محترما مقابل أن تتفرغ للعمل في الرشيدية وأن تبتعد عن الحفلات العامة والخاصة وأن يتخلى عنها مكتشفها الأول الباجي السرداحي فقبل هذا الأخير التخلي عنها لفائدة الرشيدية” ص50
صوت الرشيدية
تصبح إذن صليحة هي صوت الرشيدية الذي يعلو فوق كل الأصوات ويغرّد هذا الصوت بأحلى الأغاني وأمتنها، وكيف لا وهي من حبك أساطين النغم التونسي أو الثالوث الذهبي: خميس الترنان ومحمد التريكي وصالح المهدي.
لقد تميّزت صليحة فيما تميزت أنها غنت لصفوة الأدباء في تلك الفترة المتأنقة من شعر الفصحي والملحون، خذ مثلا لذلك “أمّ الحسن غنّات” للعربي الكبادي (1881-1961) و”دار الفلك” لعبد المجيد بن جدّو “ويا لايمي ع الزين” لـ جلال الدين النقاش (1918-1994) “وأوتاري وعودي” لأحمد خير الدين (1910-1989) “وحبيتها ما لقيتلها منجى” لمحمد المرزوقي (1916-1981) و “ربي عطاني كل شيء بكمالو” بلحسن بن الشاذلي (1902-1965) و”كيف دار كاس الحب” للهادي ذهب (1907-1980) و”هجر الحبيب” لمصطفى آغة (1871-1946) و” ننّي ننّي أهنى منام” للهادي العبيدي (1911-1985) و”مريض فاني طال بيّ دايا” لعثمان الغربي (1870-1943).
هذا إلى جانب الأغاني التراثية مثل :”مع العزّابة ” و “في الغربة فناني” و”شرقي غدا بالزين” و”عرضوني زوز صبايا”.
أغان دينية
كما أنها أدّت عددا من الأغاني الدينية مثل “انزاد النبي وفرحنا بيه” و “شهر الصيام حلّ بالبرّ والعمل” و “قد جاء يهدي إلى الرشاد” و “يا أهل أحمد يا مسلمين اليوم مولد طه الأمين” إلى جانب أغاني أخرى تتعلق بالبلد وبهجته كـ “يا زين الصحراء وبهجتها” و ” يا جنة العمالة يا برّ الجريد” و ” تونس برات اليوم من التنكيدة”.
انهارت على الركح
كانت تعرضت أثناء حفل في مدينة الكاف سنة 1957 ضمن فرقة المنار بقيادة رضا القلعي (1931-2004) للانهيار أمام الركح غير أنها لم تستسلم للوجع وأعادت الظهور يوم 10 نوفمبر 1958 في المسرح البلدي بالعاصمة قبل أن تلبي نداء ربها يوم 25 من نفس الشهر وتدفن من الغد في مقبرة سيدي يحيى بحضور عشرين ألف مشيّع.
لقد أكرمتها الدولة بتنظيم مهرجان يحمل اسمها ولقد قدّر لي بأن أحضر الدورة الأولى للتظاهرة التي انتظمت في حديقة المشاتل وقدّمه الثنائي أحمد العموري وذات الصوت الملائكي نجوى إكرام، ولقد فازت عندئذ أغنية من نظم الشيخ خميس ترنان “ليعتني بشدّ الهوى يا دوجة”.
أم كلثوم تونس..
ولقد تشرفت عندما تحملت أمانة مدينة أريانة بإعطاء اسمها لأحد الأنهج في حي النزهة.
ولقد أصدرت وزارة الاتصالات طابعا بريديا سنة 1998 يحمل صورتها وهي من رسم ابن أريانة الفنان يسر الجموسي كما أنّ السلطات المحلية في نبر وضعت في مدخل المدينة مجسّما للفنانة التي لقبتها الكاتبة اللبنانية هدى سراج في فصل منشور في مجلة العربي عدد مارس 2019 – بأم كلثوم التونسية.
وإني لأعتقد أنّه من المؤمّل أن تسعى الوزيرة الفنانة أمينة الصرارفي لإقامة مجسّم لصليحة إلى جانب صنوها علي الرياحي في بهو قاعة الأوبرا بمدينة الثقافة.
وهي التي سبق لها أن أقامت حفلا خاصا يوم 05 أفريل من سنة 2014 بالمسرح البلدي مع فرقة العازفات بمناسبة مئوية الفنانة صاحبة:
” بخنوق بنت المحاميد عيشة ريشة بريشة عامين ما يكمّلوش النڤيشة”