صالون الصريح

عيسى البكوش يكتب: حسونة المصباحي (1950-2025) رحلة عمر بين ‘جنون هنيّة’ و’موت سالمة’

issa-bakouche
كتب: عيسى البكوش

حسونة المصباحي الذي غادرنا يوم 4 جوان 2025 شخصية متفرّدة ومتعدّدة في آن، فهو روائي وقصّاص وصحافي ومترجم… هو أديب بما في الكلمة من معاني النبل والرفعة.

هو مثلما يقول الإفرنج ‘رجل كلمات’ يعشق الكلمات ويموت فيها، مثلما غرّد منوّر صمادح (1931/1998) في قصيدة تقطر حرقة وأسى.

البدايات

ولد المصباحي في 02 ماي 1950 في قرية الذهيبات قرب العلا من جهة القيروان، وكاد يكتفي بالتردّد على ‘كُتّاب’ القرية إذ أنّه لم يلتحق بالمدرسة إلا في سنّ العاشرة، فانطلق في رحلة ” للبحث عن الوتد المفقود” استعارة للكتاب الأشهر لمرسال بروش (1871/1922) ولم يكن طبعا قد تعرّف عليه حينذاك وسوف يختلط به لاحقا في فصول الجامعة بالعاصمة، وفي المقابل سيتعرّف على روّاد الأدب العربي وبخاصّة مصطفى المنفلوطي ـ صاحب العبرات والنظرات ـ (1876/1924) الذي لقي هوى عنده، ثمّ من بعد ذلك يأتي دور الآخرين من جهابذة المدوّنة الفرنكفونية من أمثال سارتر وكامو وبودلير وكاتب ياسين ومولود فرعون ومالك حدّاد…

يقول في روايته ” الآخرون” من نشر دار تبر الزمان لصاحبها المنعّم عبد الرحمان أيّوب: ‘في مطلع خريف 1974 كنت مدرّسا للغة الفرنسية في معهد “مرمي في الخلا” جنوب القيروان وكان مديره شيخا متزمّتا كأنه طلع للتو من صفحات كتب الفقه الصفراء، لقد شنّ عليّ حربا شرسة متّهما إيّاي بالفسق والإلحاد والشيوعيّة”.
الشيوعيّة هي التهمة المشينة التي كان النظام يلصقها بهؤلاء “الفتية الصعاليك” وما كانوا على الأغلب شيوعيين إنّما كانوا فتية “يحلمون بأن يتّسع الوطن لأحلامهم” وهذا ما كان يستكثره عليهم البعض ممّن كانوا يسوسون البلاد.
لقد كنت وأنا أتحمّل وزر اتحاد الطلبة أذكّر المسؤولين عن الشأن العام أنّهم هم أيضا كان في عمرهم عشرون مثلما غرّد به المطرب الجزائري الهاشمي القروابي (1938/2006) ” البارح كان في عمري عشرين”.

عقلية القطيع

وعلى الرغم من ذلك فقد أوُدع المصباحي وشلته في غياهب السجن ولو لأمد قصير. لم يبق إذن لصاحبنا من اختيار إلا هجر الديار فكان المقام بمونيخ الألمانية ثمّ بلاد الأرض الواسعة، وعاد الطائر المهاجر إلى وكره بعد عشرين عاما حاملا حقيبته المليئة بالكتب والتجارب والعبر.
ومن أفظع تلك العبر ما يقرّه في رواية “الآخرون” ص 206: ” إنّ الشرق يا عزيزي لا يتيح للفرد أن يكون فردا بل هو يمحقه محقا تامّا. إنّ شعوب الشرق تعيش بعقلية القطيع الذي يرفض أن يعيش دون راع يهشّ عليه بعصاه الغليظة ويوجّهه إلى حيث يريد”.
لقد تعرّفت على أثر الرجل قبل أن أعرفه من خلال اقتنائي خلال إحدى زياراتي للمغرب عام 1995 كتابا له صدر في الرباط تحت عنوان مثير “هلوسات ترشيش” وهو الاسم القديم لمدينة تونس، وقد نال عام 2000 جائزة أفضل كتاب تُرجم إلى الألمانية.
ولقد كان أصدر من قبل ذلك “حكاية جنون ابنة عمّي هنيّة” ومن بعدها ” ليلة الغرباء” و”الآخرون” و”السلحفاة” ثمّ “وداعا روزالي” و”نوّارة الدفلى”، و”التيه” الذي صدر عام 1997 عن دار نقوش عربية وهو من جنس أدب الرحلة التي كرّس المصباحي ريادته في هذا المضمار.
كما صدرت له بالاشتراك مع المستشرقة الألمانية هيلر: ” الحبّ والجنس في الثقافة العربية والإسلامية” و”أنطولوجيا القصّة العربية القصيرة” و”أنطولوجيا الفكر العربي المعاصر”.
كما ترجم هو “قصص أطفال لجاك بريفير” و”متاهات” و”الحب هو البراءة الأبدية” و”أصوات مراكش” لإلياس كانيتي.

في المغرب

والمعلوم أنه كان كثير التردّد على المغرب وله عديد الصداقات ولقد تعرّف في مدينة طنجة على محمد شكري (1935/2003) صاحب كتاب “الخبز الحافي”.
عند وفاته ذكره صديقه من الرباط الكاتب والسفير السابق حسن طارق في جريدة المغرب بتاريخ 10 جوان 2025 “أنّ المصباحي أكمل في ماي الماضي روايته السابعة “يوم موت سالمة” ولقد وصّى الناشر الحبيب الزغبي بها خيرا: ” هي روايتي الأخيرة وسأموت بعد صدورها، لقد قلت فيها كلّ شيء”.
ثمّ يضيف: ” لقد زرته في البيت الذي أنشأه في الذهيبات ووضع على واجهته “الزهرة البريّة”
فقلت له: من تكون هذه الزهرة
فبادرني بجواب قاطع: أنا طبعا أنا ”
والمعلوم أنّه كان تحصّل سنة 2016 على جائزة محمد الزفزاف للقصّة العربيّة بينما رفض سنة 2010 جائزة “كومار” لقصّته “رماد الحياة”.
وربّما هذا هو البعد المشاكس للمصباحي، فقد كان له سجال الشاعر الملهم محمد الصغيّر أولاد أحمد (1955/2016) كما كان له موقف من ثورة الياسمين إذ أنه ألف عام 2015 كتابا في الغرض اختار له عنوانا مستفزّا ” الأشواك والياسمين” تعرّض فيه إلى المنتحلين و ‘المتشعبطين’ الذين حوّلوا الانتفاضة إلى غير مقاصدها.

أنا لست ثوريا

فهو ينأى بنفسه عن الثوريّة، ولقد صدح بذلك في رحاب بيت الحكمة عند تكريمه عام 2014
“أنا لست ثوريّا، أنا كاتب”.
صدر له بالفرنسيّة كتابان:
Pas de deuil pour ma mère عن دار أليزاد
A la quête du bonheur عن دار نقوش عربية.
هذا إلى جانب ترجمات البعض من مدونته إلى اللغات الألمانية والإنقليزية والفرنسية.
اهتمّ المصباحي أيضا بحركة الإصلاح في تونس وألف في الغرض كتابا صدر عن دار الحرية سنة 2008 تحت عنوان : ” ثلاثة منارات تونسية : خير الدين باشا ، محمد بيرم الخامس، والشيخ سالم بوحاجب”.
جاء في توطئة الكتاب: ” ها أنا أوفي بوعد كنت قطعته على نفسي منذ أمد بعيد، وهو أن أكتب عن هؤلاء المصلحين تعبيرا عن وفائي الدائم لهم، هم الذين لا تزال أفكارهم قادرة على أن تضيء الطريق أمام الأجيال الصاعدة من أبناء تونس الجميلة”.
كتب المصباحي في أعتى الجرائد والمجلات مثل: “الدستور” و”الوطن العربي” و”المجلة” و”الشرق الأوسط” و”دبي الثقافية”.
كما تحمّل من 1986 إلى 1988 سكرتير تحرير مجلة ” فكر وفن” التي كانت تصدرها وزارة الخارجية الألمانية والموجهة إلى العالم العربي.
كما كتب في عديد الصحف الألمانية معرّفا بالثقافة العربية الإسلامية.
لقد قابلت الفقيد مرات ولقد احتفينا به وبمدوّنته في رحاب المكتبة المعلوماتية بأريانة، ثمّ إنّنا سافرنا سويّا يوم 10 جوان 2015 إلى قفصة بدعوة من الصديق لزهر الشريف رئيس جمعية الصيانة هناك للمساهمة في الملتقى التكريمي للأديب الراحل محمد أبي القاسم كرّو، وبالمناسبة فإنّي أهيب بوزارة الثقافة التي منحت المصباحي عام 1986 جائزة القصّة القصيرة عن “حكاية جنون ابنة عمّي هنيّة”، أن تسعى إلى إقامة ملتقى تكريميا للفقيد يلتئم بترشيش التي أحبّها ولكن هذه المرّة دون هلوسات.
رحم الله هذا المبدع الفذّ وغفر له وأسكنه فراديس جنانه وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى