عيسى البكوش يكتب: أريانة/ المرحلة الأخيرة في حياة الشاعر أبي القاسم الشابي

كتب: عيسى البكوش
لا نفتأ نتحدث عن الشاعر الملهم أبي القاسم الشابي بعد تسعين عاما من رحيله، ولعلنا لن نوفيه حقه في الدراسة والتحليل إلى زمن بعيد. فالرجل يعدّ استثناءً في تاريخ الأدب العربي ولم لا في تاريخ الشعر العالمي…
جاء في كتاب ” عالم وشاعر” أهدانيه الصديق سماحة المفتي هشام بن محمود والصادر عن دار محمد علي عام 2012، أنّ والده الشيخ المختار بن محمود رفيق درب الشابي صرّح في أحد مواكب الذكرى عام 1966: ” إنّ الشهرة التي أحرز عليها أبو القاسم الشابي والمكانة التي احتلها شعره من بين شعراء هذا القرن في سائر الأقطار العربية قلّما يجرؤ عليهما من الأدباء إلا العدد القليل ممّن رزقوا الحظوة كما كان يعبّر ابن الأثير عن المتنبي . ولكن الشيء الذي يلفت النظر هو شدّة اعتناء الباحثين عن سرّ هذا النبوغ وهذه العبقرية” ص96.
حياة قصيرة
يقول المنعّم منجي الشملي في كتابه ” في الثقافة التونسية ” الصادر عن دار الغرب الإسلامي بيروت 1985: ” حياة قصيرة: حياة الشابي الأدبية لم تتجاوز الثماني سنوات من حياة لم يعمّر صاحبها سوى 25 سنة أو تقلّ ولكنها حياة ترك صاحبها أثرا أضحت سيرورته تشهد بقيمته، فتغنّى الناس بشعره مغرّدين ثمّ أقبلوا عليه درسا وعطفوا عليه وصفا، فكان الضجيج حول شعره وكان الحدس حول شخصيته حتى كادت تنسج الأساطير حول الشاعر والشعر معا”.
الولادة
لقد ولد أبو القاسم الشابي مثلما جاء بخطّ قلمه في رسالة وجّهها إلى صديقه محمد صالح المهيدي: ” في ليلة اليوم الثالث من صفر سنة 1327 الموافق للرابع والعشرين من فيفري 1909 لفظتني السماء إلى هذا العالم الغريب فكنت بشرا سويّا…”.
ولقد سارت به الحياة إلى أن حطّت بي الرحال سنة 1934 وهي سنة العود إلى البارئ.
تفتّح العام عن ولادة أصغر بنيه جلال يوم الرابع من جانفي بعد أن رزق بمحمد الصادق في 29 نوفمبر 1931.
في شهر فيفري ينظم قصيدة :”الاعتراف”:
” ما كنت أحسب بعد موتك يا أبي ومشاعري عمياء بالأحـــــــــزان
أنّي سأظمأ للحياة وأحتســـــــــي من شهدها المتوهّج النشــــــــوان
إنّ ابن آدم في قرارة نفســـــــــــه عبد الحياة الصادق الإيمــــــــــان”
ثمّ جاء قصيد ” قلب الشاعر” في شهر مارس:
” كلّ ما هبّ، وما دبّ، ومـــــــــا قام، أو حام على هذا الوجــــــــود
من طيور، وزهور، وشــــــــــذى وينـابـيع، وأغصان تمــــــــــــــيد
وبحار، وكهوف، وثــــــــــــــرى وبراكين وأغصان تمـــــــــــــــيد
كلّها تحيي بقلبي حــــــــــــــــــرّة غضّة السحر، كأطفال الخلــــــود”
وفي شهر أفريل ” إلى طغاة العالم”:
ألا أيّها الظالم المســــتبد
حبيب الظــــلام عدو الحياة
سخرت بآنات شـعب ضعيف
حذار ! فتحت الرماد الـــلهيب
وقصف الرعود، وعصف الرياح
سيجرفك الســــيل سيل الدماء
ويأكلك العاصـــف المشتعل.”
مرض وتدهورت صحته
ثمّ من بعد ذلك تدهورت صحّة الشابي فقصد حامّة الجريد وكان قد لزم الفراش من شدّة البأس في توزر، فكتب إلى رفيقه المختار بن محمود يوم 21 فيفري 1934 وهي آخر رسالة سيتصل بها:
” لقد اتصلت بتهنئتك (بمناسبة العيد) في حينها ولكن عاقني عن ردّها أنها وافتني وأنا من المرض في شدة لا أستطيع معها أن أبدئ أو أعيد وما كنت أحسب أنه يأتي عليّ زمن لا أستطيع فيه أن أمسك القلم أو أغادر الفراش.” كتاب ” علم وشاعر ” ص43.
وفي رسالة بعث بها إلى رفيقه محمد الحليوي من حامة الجريد طريق دقاش في شهر جويلية يبوح الشاعر :”إنني الآن مهموم النفس موزّع اللبّ مستطار الشعور مقسّم القلب بين دائي القديم ونصفي السقيم ولست أدري ماذا وراء غدي المحجوب من ويلات الخطوب”. ويضيف :”وأحسب أنّ قدومي على الحاضرة سيكون في آخر الشهر”.
وفعلا يقدم الشاعر – مثلما أشار السيد عبد الرزاق شريط في كتابه الأنيق عن الشابي – يوم 26 أوت إلى ضاحية أريانة للتداوي ويقيم عند أحد أبناء عمومته العميد عبد العزيز الشابي (1910/1986).
وعند مفارقته للحامة يكتب إلى الحليوي يوم 18 أوت الرسالة الرابعة والثلاثين والأخيرة: “إنني اليوم أفارق الحامة راجعا إلى توزر وإنّي لأحمد الله أنّي أتيت منها سقيما موهون القوى لا أملك لنفسي عضوا وأرجع إليها معافى بعض العافية”.
ويذكر الدكتور علي الشابي في كتابه “ظلال النخيل” الصادر عن جمعية الشابي سنة 2020 أنّ المنعم عبد العزيز الذي أنشأ فيما بعد جريدة “لسان العرب” اقترح على الشاعر نظم قصيدة عقب اعتقال الزعيم الحبيب بورقيبة يوم 03 سبتمبر 1934 فنظم “زئير العاصفة” :
تسائلني ” مالي سكتّ ولم أهب بقومي وديجور المصائب مظلم
وسيل الرزايا جارف متدفع غضوب، ووجه الدهر أربد أقـتم
فيا أيها الظلم المصعّر خدّه رويدك ! إنّ الدهر يبني ويهـدم
سيثأر للعزّ المحطّم تاجه رجال إذا جاش الردى فهم همُ ”
سنة 1934 يمكن هي أيضا نعتها سنة “الديوان”.
غيّبه الموت…
يقول منجي الشملي: “هي سنة إعداد الديوان ولا ديوان فيها، جشم الشاعر العليل نفسه متاعب جمع أغانيه وفيه كان يبث الرسائل إلى هذا وذاك من أحبابه ملتمسا منهم وملحّا عليهم أن يوافوه بحاصل ترويج الاشتراكات وقد أزعجه ركود سوق الفكر في تونس وإعراض الناس عن الأدب.”
وامتدت له يد العون من مصر حيث وافاه صديقه زكي أبو شادي صاحب مجلة ” أبولو” في رسالة مؤرخة في 17 أوت “إنك دوما في ذاكرتي وستجد مني كل العناية في الإشراف على طبع ديوانك”.
ولكن المنية باغتت صاحبنا وحالت دون أن يرى الديوان النور إلا بعدما أغمضت عينا الشاعر في فجر التاسع من أكتوبر بمستشفى الطليان (الحبيب ثامر حاليا).
لقد أبّنه رفيقه مصطفى خريف وهو مثلما يشير إليه العلم المختار بن محمود من فحول الشعراء بتونس.
“وشعرك باق نابض متدفق له في فم الدنيا بناء وترديد
له من شغوف العبقرية حلة منمقة فيها ابتكار وتجديد
وعمرك موصول طويل المدى له في امتداد الفكر نسل وتوليد “.