فنون

حسيبة رشــــدي أو زهــــرة عبد النبي: ‘عذابات طفولة و مجد فنّانة’

حسيبة رشدي أو بالأصح زهرة عبد النبي ( 1918 / 2012 ) هي تلك المرأة الريفية الجريئة و الشجاعة و التي منذ نعومة أظفارها ركبت صهوة المخاطر و خاضت عديد المجالات كالغناء و السينما و المسرح و الرقص و السياسة دخلت عش “الجوسسة” رغما عنها…

وهي أيضا تعتبر ـ في عصرها ـ علامة فارقة في عالم افتكاك المرأة لحريتها، وهي التي غادرت قريتها بازينة منذ أن كان سنّها 11 سنة لتخوض المغامرات في بحور متلاطمة  الأمواج رغم ما كانت عليه عقلية المجتمع من انغلاق  في فترة الثلاثينات  و نظرته للمرأة.
هذه الفنانة، التي أدركت رغم أميتها أنّ عليها الفوز بجلدها قبل أن
“يقع الفأس في الرأس ” لأنّها لم تقبل الخنوع، رغم صغر سنّها، لكل تلك العادات البالية التي تسود قريتها ” أولاد سعيد ” بمنطقة بازينة من معتمدية جومين من ولاية بنزرت.

لقاء حواري

و قصد إلقاء الضوء على حياة الفنانة حسيبة رشدي التام لقاء حواري حول  كتاب ” حسيبة رشدي، عذابات طفولة و مجد فنانة ” للدكتور عبد الرحمان المرساني وذلك  يوم الأحد 5 مارس 2023  بمبادرة من تنسيقية الصحفيين بولاية بنزرت و بفضاء المقهى الثقافي سيدي سالم ببنزرت تحديدا. و قد  جاء في مداخلة المؤلف الدكتور عبد الرحمان المرساني، قوله ” إنّ دوافع تأليفي لهذا الكتاب حول الفنانة حسيبة رشدي هي، أوّلا تناول  الأستاذ فاخر الرويسي في كتابه لحياة الفنانة  ” فتحية خيري ” و ثانيا لأنّ هذه الفنانة هي ابنة بلدي بازينة التابعة لمعتمدية جومين من ولاية بنزرت. و ثالثا لأنّه لم يتم تكريمها بالشكل الجيّد في حياتها و رابعا لأنّه لم يتم تأبينها عند وفاتها على غرار ما يتم لكل المبدعين، فضلا عن كوني مكثت 4 سنوات لإصدار هذا الكتاب  و ذلك في أواخر سنة 2021 ،  تخوفا من الوقوع في بعض الأخطاء.”

تقديم الكتاب

من ناحية الشكل، تضمن الكتاب  184 صفحة من الشكل المتوسط  و تمّ تقسيمه إلى 5 فصول مع إفراد الفصل قبل الخاتمة تحت عنوان ” كلام لابدّ منه في الموسيقى التونسية و السينما الغنائية المصرية ” و أيضا تمّ تقديم الكتاب من قبل الأستاذين محمد عبيد أستاذ جامعي بالمعهد العالي للموسيقى بكل من تونس و البصرة و فتحي المغراوي أستاذي للفرنسية و رئيس نادي السينما و رئيس فرع ماطر للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان سابقا أمّا الإهداء فهو لابنة المؤلف الطفلة رحمة المرساني، عازفة الكمان الصغيرة و التي تنشد النجاح في عالم الموسيقى الجميل.

حاولوا ارغامها على الزواج

أمّا من ناحية المضمون، تعرّض الكاتب إلى الإطار الاجتماعي لـ حسيبة رشدي بمدينة ماطر التي انتقلت إليها  على إثر خصام  مع والدها و هروبا من بطشه والذي كان يمنعها حتى من تقليد الغناء حيث احتضنتها إحدى قريباتها بجهة ” الرصف ” بماطر و كانت انطلاقة حسيبة رشدي الفنّية من ماطر حيث تعرّفت على فنانتين يهوديتين و هما ” بهية ” و ” رتيبة ” و تدربت على يديهما على أصول الغناء لتنتقل بعد ذلك إلى مدينة بنزرت بعد تفطن والدها إلى ما تأتيه من التدرب على الغناء، و لكن تمّ إرجاعها من قبل عمّها إلى قريتها حيث حاولوا ارغامها على الزواج  فهربت من قريتها خلسة ورحلت على إثر ذلك إلى مدينة صفاقس عن طريق احدى قريباتها و تعرّفت بداية  هنالك على المطربة فتحية خيري  التي عرفتها على جمع من الفنانين و الملحنين و في صفاقس تعرفت أيضا على المدعو طاهر بلحاج الذي علّمها أصول المسرح و كذلك علّمها أصول القراءة و الكتابة باعتبارها أميّة حتى تتقن الأدوار التي كانت باللغة العربية. 

الانطلاقة الفنية

وعلى هذا الأساس بدأت الحياة الفنّية  الفعلية لـ حسيبة رشدي انطلاقا من سنة 1937 مع فرقة النجم التمثيلي بصفاقس و اكتشفها عازف القانون و قتها محمد النابلي و قدمها للجمهور بأغاني أم كلثوم و خاصة بأغنية ” جنّة نعيمي في هواك ”  و في سنة 1944  ربطت فتحية خيري  الصلة لـ حسيبة رشدي مع العديد من الوجوه الفنية من الملحنين في ذلك العصر و قد تعرفت حسيبة على محمد التريكي الذي أصبح زوجها فيما بعد و البشير الرصايصي  الذي اصطحبها  معه  إلى باريس وسجل معها أغنية ” العشاقة ” و ” ساق نجعك ساق ” و ” و بالله يا أحمد يا خويا ” ثم لحن لها زوجها صالح المهدي ” جسمي بعيد عليك ” و ” في ضي القميرة ”  و غيرها من الأغاني.

زواج جديد وإقامة بمصر:

و بعد طلاقها تزوجت من الضابط الأمريكي ” HENRI  ” الذي كان يعمل بالسفارة الأمريكية ثمّ توجهت صحبة زوجها إلى أمريكا سنة 1944 ولكنها لم تتمكن من الرجوع إلى تونس بحكم ظروف الحرب وقتها و في تلك الأثناء فتحت مطعم باسمها في أمريكا.
وحاولت أن ترجع لتونس و لكن لم تتمكن من الحصول على تأشيرة لذلك كانت وجهتها إلى مصر و تعرّفت هنالك على السيد شطّا الذي  أخضعها لامتحان في المجال الغنائي و كان ذلك بحضور أم كلثوم ورياض السنباطي و عرفت حسيبة رشدي النجومية في مجال السينما المصرية وشاركت في 4 أفلام ”  فين الحب  ”  و ”  طريق الشوق ”   دماء في الصحراء ”  و ” انتقام الحبيب  ”  و  يقال أنها كانت وراء نجومية  فريد شوقي. و تعرفت على المطرب عبد الحليم و غنت معه ” ديو ” و كان منزلها في مصر قبلة كل الفنانين التونسيين من بينهم محمد الجموسي و الهادي الجويني ، كما تعرضت حسيبة رشدي في مصر إلى المحاصرة و المضايقة من قبل نقابة الفنانين و بعض الفنانين بإيعاز من أم كلثوم.

حسيبة رشدي و السياسة

حسيبة لا تفهم في السياسة  – حسب المحاضر – و لكن ظروف الحياة أجبرتها من الاقتراب من هذا العالم و ذلك بسبب وظائف زوجها الديبلوماسية حيث  أن الكثير من السياسيين التونسيين وجدوا في زوجها وسيطا هاما لفض بعض الخلافات مع الجانب الفرنسي و قد تمكنت أثناء ذلك من معرفة الكثير من الأسرار وذلك عبر زوجها  حيث عرفت من هم الجواسيس من التونسيين، و من كان منهم متعاونا مع السفارة الأمريكية، بل كانت تصحب زوجها لزيارة السجون و تتوسط لإطلاق الكثير من المساجين  التونسيين مما أثار حفيظة السلط الفرنسية آنذاك…

نقاش و مراوحة غنائية :

ملاحظة أولى و أنّ هذا اللقاء حضره ضيوف من الجنوب التونسي و أيضا من فلسطين  ( الأستاذة سهام عودة ) و من داخل الجمهورية و من العاصمة فضلا عن مرتادي هذا الفضاء الثقافي العاديين إضافة إلى الإعلاميين. هذا و قد كانت المداخلات حول هذه الفنانة و مسيرتها كثيرة ممّا يحتم الإتيان على أهمّها و هي كالآتي  :
* جلّ المتدخلين أجمعوا و أثنوا على الجرأة و الشجاعة التي كانت عليها الفنانة حسيبة رشدي و هي لم تتجاوز سن 11 سنة و ركوب المخاطر و تحدي العائلة و المجتمع لتشق طريقها كما أرادت و وصفها البعض بصاحبة الإرادة القوية رغم ما يسود في تلك الحقبة من نظرة المجتمع للمرأة عموما و اقترح البعض في هذا السياق لتكون حياة الفنانة حسيبة رشدي موضوع شريط سينمائي أم مسلسل تلفزي.
*على عكس ما ذكر في الكتاب ذكر أحد المتدخلين و أن علاقة أم كلثوم مع حسيبة رشدي كانت علاقة متوترة جدا إلى درجة أنّها أعطت التعليمات لنقابة الفنانين المصريين لعدم بثّ أغانيها أو تصريحاتها بل كانت علاقة شرسة باعتبار غيرة أم كلثوم من الفنانة حسيبة رشدي، و هذا ما دفع سيدي علي الرياحي باعتباره  وقتها كان نقيب الفنانين التونسيين من الدفاع عنها و اتباع أسلوب المعاملة بالمثل.
*الإشارة إلى أن حسيبة رشدي وجدت نفسها في مستنقعين خطيرين رغم ارادتها و هما مستنقع الفن و مستنقع السياسة و هذا ربما دفعها للعب بعض الأدوار التي فرضت عليها في عالم السياسة بحكم ربما عدم ادراكها و عدم امتلاكها لملكة التحليل و الوعي و هذا يجعل منها شخصية لم تكتمل  على عكس مسيرة الفنانة صليحة، و قد تكون ساهمت حسيبة رشدي في إكثار الجواسيس في تلك الحقبة بتونس بحكم انتمائها إلى اخطبوط الجواسيس بحكم عمل زوجها الأمريكي كضابط في هذا المجال.
*أغنية ” مع العزابة ” أثارت الكثير من النقاش و التعليقات وصلت إلى تصحيح بعض المفاهيم في ما تعنيه كلمات هذه الأغنية و كان ذلك في مداخلة أولى لضيف من الجنوب و أيده في ذلك أحد الحضور ليؤكدا و أن معنى ” بكرتي ”  ( بضم الباء ) تعني الناقة الصغيرة و ” العزابة ” تعني الشخص الذي يكون في المقدمة ليكشف الطريق لإقامة النجع و بالتالي لا علاقة لكلمة ” بكرة ” بالمرأة البكر أو غيرها من المفاهيم المشاعة الأخرى و في نفس السياق قيل و أن هذه الأغنية هي أغنية من التراث الجزائري.
*تعودنا على شرب القهوة على صوت السيدة فيروز( و هذا كلام للضيفة الفلسطينية ) و لكننا اليوم نشربها على أنغام الفنانة حسيبة رشدي باعتبار و أن هذا اللقاء كان مراوحة بين النقاش و الغناء و بالتالي تحية للمرأة التونسية التي استطاعت الصمود مستشهدة في نفس السياق بفدوى طوقان التي تمّ ارغاما لمغادرة المدرسة لأن أحد زملائها من التلاميذ أهداها وردة و أدعو بكل لطف، من هذا المنبر، لتناول بقية الشخصيات المغمورة.
* لتأليف هذا الكتاب، هل تمّ فقط الاعتماد على المراجع الأكاديمية الرسمية أم تمّت بحوث ميدانية و اتصالات مع البعض من أهلها  و عشيرتها لمعرفة بعض الحقائق، و هل هناك إمكانية لطبعة ثانية منقحة تبعا لبروز معلومات جديدة حول هذه الفنانة، مع الدعوة لتناول الفنان خميس ترنان بالبحث باعتباره يعتبر ركيزة من ركائز المالوف التونسي.
و أخيرا تجدر الإشارة إلى أن هذا اللقاء الحواري كان مراوحة بين النقاش و الحوار و الغناء حيث غنّت أحد الحاضرات ” لاموني اللي غاروا ” بمرافقة لطيفة على آلة الكمان للعازفة الصغيرة رحمة المرساني ثمّ تلتها أغنية ” تحت الياسمينة  في الليل ” ليتحفنا كذلك الفنان رضا بن علي بأغنية ” مع العزابة ” و لتختم هذه السلسلة من الغناء الشاعرة منى البابوري بأغنية فلسطينية بعنوان ” يا عين ياليل / يا ليل يا عين ”  تحية لإخواننا الفلسطينيين.

مواكبة الأمين الشابي
عـدسـة حنان الذوادي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى