الصريح الثقافي

الشاعرة فائزة بنمسعود : تتعامل مع النص بوصفه غاية في ذاته..وليس جسراً هشّاً

 كتب: محمد المحسن

تصدير :

يعلّمنا تاريخ الإبداع البشري أن الكتابة الحقيقية لا تنبجس من فراغ،ولا تنسلخ من الجاهز ومن رماد السائد،وإنّما تقف على أرضية المشكلات الكبرى التي تطرحها الثقافة وهي تستقبل فجر المعنى المرتبط بتاريخيتها الخاصة،في محاولة لتجاوز مآزقها الخاصة واحتضان زمنها وإيقاع لحظتها.

بوسع الخريف أن يكون أنتَ

بوسع الخريف أن يكون زيتونة

دائمة الاخضرار

لاتكشف عورة الفنن

جذورها وشم على زند عاشقة

رماها الهوى من اعالي جبال الشوق

بوسع الخريف

ان يكون سرب حمام

مسافرا لأقاصي الخلود

بوسع الخريف ان يكون

ربيعايغازل النجوم

ويراقص القمر سرا

ويغتاب ليل الشتاء الطويل

بوسع الخريف أن يكون

نهرا متجمدا يغضّ الطرف

عن العابرين لعدوة الفصول الخمسه

بوسع الخريف

أن يكون خطّاء توّابا

يذرف الدمع على كتف الرعد فينهزم

بوسع الخريف

ان يكون سيل حب جارف

او حتى غانية لعوبا

تغري وتدفع في بحر الغواية بمن تريد

بوسع الخريف

ان يكون صيادا يستدرج بالمديح طريدته

لمقصلة الفناء

بوسع الخريف

ان يكون باقة جلنار على ضريح

او فوق مائدةعشاء فاخر

بوسع الخريف ان يكون أنت يا حبيبي

حتى وان جئتني على هيئة عواصف

ورياح ورعود

احتضن الماء والريح وهيا

بوسع الخريف

ان يلدنا أنا وأنت قصيدة وزخات مطر….

فائزة بنمسعود

تمثل الشاعرة التونسية الألمعية فائزة بنمسعود واحدة من رائدات الثقافة في تونس،وقد أبانت تجربتها الشعرية عن تفوّق مبكّر ومقدرة فائقة،في الإبداع الأدبي.

إنها بدون أدنى شك -قامة شعرية طبعت بحضورها المتميز النشاط الثقافي والأدبي لسنوات خلت في بلدنا.وهي تشكّل برأيي -إسماً أدبيا مهماً في تاريخ الإبداع في تونس.

إنها شاعرة تشبه شعاع الشمس الذي يخترق الزجاج دون أن يلطخه أو يخدشه،وموجة عابرة على سطح المحيط الإبداعي التونسي،ونسمةٌ دافئة،وبسمةٌ حزينةٌ،وفي شعرها عبق التاريخ والملح والماء والرعاة،وروائح أعشاب برية عانقت الشمس والهواء.

ويعلّمنا تاريخ الإبداع البشري أن الكتابة الحقيقية لا تنبجس من فراغ،ولا تنسلخ من الجاهز ومن رماد السائد وإنّما تقف على أرضية المشكلات الكبرى التي تطرحها الثقافة وهي تستقبل فجر المعنى المرتبط بتاريخيتها الخاصة،في محاولة لتجاوز مآزقها الخاصة واحتضان زمنها وإيقاع لحظتها.

وفائزة بنمسعود– في تقديري-واحدٌة من ألمع شاعرات القصيدة الجديدة في تونس.فقد كانت بداياتها الأولى مبهرة سواءٌ في مضامينها أو في اكتمال بنيتها الفنية.

لقد جاءت قصائد -فائزه بنمسعود-الأولى منذ البداية مكتملةً ناضجة،سليمة النطق مستوية البناء مغلفة بغيوم شفافة من الرمز اللغوي والفني،ففي شعره نلاحظ بشكل غير قليل من الحقائق التاريخية والجغرافية، فضلاً عن الغوص في سديم الطقوس وفي عمق الأساطير القديمة..

وقد ظلّت -فائزة-عبر مسيرتها الإبداعية الخصببة وفيّة لهذه التجربة البكر،ولم تتبرأ منها أبداً

ولم تكن-فائزه بنمسعود-تتعاطى مع الشعر بوصفه الوسيلة الوحيدة للتعبير وهندسة التلقي،وبوتقةً لاختبار إمكانيات اللغة،ومنصةً لجدل الأفكار،ووعاءً لتأمل الوجود،بل تتعامل مع النص بوصفه غاية في ذاته وليس جسراً هشّاً يقود إلى الارتماء في أحضان الجاهز المؤسّسي.بل إنني أجزم من خلال معرفتي الوثيقة الصلة بها وبتجربتها الشعرية أنها كانت تؤمن أن للإبداع قيمة في ذاته بوصفه كشفاً وفتحاً لأقاليم جديدة تثري رصيد الحساسية الإنسانية وتغني مغامرة الإنسان الباحث دوماً عن ألفةٍ مع العالم والأشياء خارج نظام القمع والرقابة؛وكانت تدرك،أيضاً،بحسها الشاعري المرهف،أن الإبداع ليس تاريخ المباركة وإنما هو تاريخ التجاوز والانعتاق من المعنى الذي تفرضه القوة إلى قوة المعنى المنبثق بفعل الكتابة بوصفها عيداً لا يتوقف عن اقتراف البدايات.

لقد كانت -فائزة بنمسعود-مثقفة استثنائية لا تبارك العالم كما ورثته في صيغتها الفكرية والإيديولوجية.هذا ما يفسّر،ربما،عدم ركون كتاباتها الشعرية إلى القول المباشر الذي لا ينفذ إلى جوهر العالم ولا يسافر إليه عبر اختراق القراءات المطروحة عنه ومساءلتها،وإنما كانت ترفض أيضاً قراءات العالم التي تحددها الجهات المأذونة وتصادق عليها عائلة الثقافة المقدّسة.

وعليه،فإن قراءة التجربة الشعرية عند هذه الشاعرة الفذة تتطلب الذهاب الى منهج متوازي يقارب بين المناخات الفنية للقصيدة والمناخات الثقافية والفكرية المحيطة.

ويجد المتأمل لأعمال فائزه بنمسعود نفسه أمام تجربة شعرية جديدة،مملوءة بالتميز والفرادة..وهذا يدلُّ دلالة واضحةً وقاطعةً على أَّن الشاعرة تمتلك ثقافةً متنوعةً..ورصيداً فكرياً وأنثروبولوجياً واسعاً..مما أفرز لنا تجربة شعرية متراكمة عبر مراحل عدة من حياة ومواقف الشاعرة الثقافية والفكرية..

كل هذا الكم المعرفي والثقافي والأدبي ساعدها أن تخطو بالقصيدة خطوات متسارعة ومتطورة الى الأمام..فجاءت قصائدها ذات مسافات متوترة..وفجوات متباينة..وفضاءات متعددة..مرةً صاخبة..ومرةً هادئة..حتى وصلت بالقصيدة الى مرحلة النضج..وتفكيك العبارات..وتأجيج الالفاظ…وتفجير المعاني.

أردت أن أقول من خلال هذا إن الشاعرة التونسية فائزة بنمسعود شاعرة وطنية أقامت في فضاءات الكتابة بوصفها وطناً لازوردياً ينفخ في قصب الكلمات أسرار الخلق والمعنى الذي يعتق فينيق الذات المبدعة من رماد المؤسسة الثقافية،ومارست الصعلكة الثقافية ورفضت عبر مسيرتها الإبداعية أن تكون مثقفة تفكّر من داخل المؤسسة الرسمية،ولهذا ظلّ أدبها منخرطاً في الهم العام بوصفه همّاً مقدّساً.وكانت فائزة مثقفة ثورية نقدياً،سمح لنفسها بأن تعيد النظر في كل شيء.

الشعر،بهذا المعنى،لغة مغايرة ومناهضة للثقافة التي هيمن عليها الخطاب الإيديولوجي الأحادي.

ومن هنا،فإنني أعتقد أن المتأمل الحصيف في ما تبدعه هذه الشاعرة المتميزة (فائزه بنمسعود) يستطيع -دون كبير عناء -أن يقف بنفسه على ما أقوله الآن.

أردت أن أقول كل ذلك كي تكون دراستي عن الشاعرة فائزة بنمسعود شهادةً للتاريخ ومدخلاً إلى قراءة ظاهرة المثقف الاستثنائي في تونس المعاصرة،مشيراً إلى أن -فائزة- قد أدركت مبكراً أن جوهر الإبداع يكمن في الانحياز إلى الكتابة الصادقة الجريئة بوصفها سؤالاً وبحثاً ووعداً بإنتاج معادل موضوعي للعالم في أفق الكشف المضيء من أجل قول الإنسان والأشياء.

نخلص مما سبق إلى ما أكدناه أكثر من مرة في هذه الدراسة-المقتضبة- وهو أن«فائزة بنمسعود تمتلك رؤية واضحة تجاه العالم والأشياء،ويغلب على شعرها الطابع الرومانسي الملحمي الواقعي،وهي تمتلك مميزات وخصائص تجعل لها ملامح مختلفة وتكسب صوتها نكهة مميزة بالنسبة إلى الآخرين.

وأختم دراستي بقصيدة «حبنا بعث وحشر» والتي تقول فيها :

إذا كان حبّك لي

خطيئة وآثامَا

فاقرأْ على العشقِ السلامَا

وتنفل ْ في جوف الظلام

وصلِّ صلاة الغرامَا

وأعلمُ أنّكَ مورط في الحبّ

ويبقى الكلام كلامَا

وأعلمُ أن حبي غزاك

وأنك تحتسي الشوق هيامَا

وأعلمُ أن يومك طويـــل

وأنّ ليلك سهاد وقيامَا

وأعلمُ أن قلبكْ طفلـــي

وعنّي ما رام الفطامَا

لا تدعْ الحزن يجرّ حزنا

والحزن في العشقِ حرامَا

الحبّ قدر جميل

وللروح بلسم وانسجامَا

وقصص العشقِ لا تنتهي

دوما بلقاء وأحمر ورد

وأسراب حمامَا

وحبنا ولد كبيرا

وأكبر من كل ملامَا

وحبّنا فوق الموت

ورمز شجاعة وإقدامَا

حبنا تناقلته قوافي القصيد

ودوّنته أقلاما وأقلامَا

والحبّ في شرع الهوى مباح

وما كان يوما إجرامَا

الحبّ خلود سرمديّ

لمن أخلص واستقامَا

وحبّنا بعث وحشر

وعبور صراط

يوم تقوم القيامَا..

(فائزه بنمسعود )

لك مني -يا فائزة سلة ورد..وتحايا مفعَمَة بعطر الإبداع

محمد المحسن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى