صالون الصريح

هادي دانيال يكتب/ في عهد ترامب الثاني: سياسة ‘أمركة’ العالم تعود بأكثر ضراوة ووحشيّة

adanille
كتب: هادي دانيال

يبدو أنّ الدولة العميقة في الولايات المتحدة الأمريكية تمكنت نسبياً مِن كسب جولة في الصراع لاستمرار هيمنتها على المشهد السياسي الدولي بَعْدَ أن شهدَ الأخيرُ بروزَ ضَرْبٍ من تعدُّد الأقطاب الدولية والإقليمية..

ولعلّ أبرز مظاهر هذا “الكسْب” ليس فقط إعادة الكيان الصهيوني إلى السيطرة العسكرية على الأراضي الفلسطينية والسورية واللبنانية واستعراض آلياته على بعد 18.5 كم من مدينة دمشق بعد احتلال مرتفعات جبل الشيخ، إضافة إلى مئات الكيلومترات المربعة من أراضي محافظات القنيطرة، درعا، وريف دمشق، وإطاحة نظام الرئيس بشار الأسد بانقلاب استخباراتي إقليمي/دولي تورطت فيه مباشرة واشنطن، أنقرة، وتل أبيب.

سحل الدولة السورية

ولإهانة وسَحْل الدولة السورية وشعبها وللانتقام من تاريخهما ودورهما الوطني والقومي والإنساني سلّمت دفّة حكم دمشق لخلاصة تنظيميّ “القاعدة ” و”داعش” مُمَثّلين بفصائل تنظيم “هيئة تحرير الشام” الإرهابي التكفيري بزعامة المدعو “أبو محمد الجولاني”، الذي لا يزال على قوائم الإرهاب الإقليمية والدولية بما فيها القائمة الأمريكية، على الرغم من أنّ الأمريكان لم ينكروا(بل اعترفوا بلسانيّ هيلاري كلينتون ودونالد ترامب، في الأقلّ) أنّ مخابراتهم المركزية هي التي أنشأت وموّلت ودربت وأدارت تنظيم “القاعدة” ولاحقا “داعش”، ووظفتهما ولا تزال في خدمة سياساتها وحروبها عبر العالم تارةً كـ ‘مقاتلين من أجل الحرية’ وأخرى كذرائع للتدخل في الشؤون الداخلية للدول التي تستهدفها كما حصل ويحصل في أفغانستان والعراق وسوريا ولبنان وليبيا وغيرها.

إبادة جماعية

من مظاهر هذا “الكسْب” أيضاً أنّ مجازر الإبادة الجماعية والتصفية العرقية وتدمير القرى والمدن وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية الموثقة في غزة والضفة الغربية ولبنان بأسلحة أمريكية في الأيدي الإسرائيلية تجري مُباركَتْها على لسان “مسؤولة أمريكية ترامبية” من “قصر بعبدا” الرئاسي اللبناني، وحاكم دمشق الجديد بأمر واشنطن وتل أبيب يتعهد بأن لا تُطلق رصاصة من الأراضي السورية على الكيان الصهيوني ويُعلن بأنه لا يعدّ “إسرائيل” عدوا بل عدوه الذي سيحاربه أولئك الذين كانوا يقاومون “إسرائيل” ولازالوا في حالة حرب معها، أي أنّ أعداء “إسرائيل” هُم أعداء “الجولاني”.
وفي الوقت نفسه يُفلت الأخيرُ قطعان الإرهابيين من جنسيات عبْر العالم لارتكاب المجازر التكفيرية يوميا ضدّ المدنيين الأبرياء من أبناء الأقليات العرْقية والدينية الذين لم يختاروا “الوهابية” عقيدة ليشمل ذلك التصنيف التصفوي “الأشاعرة” و”الصوفية” من الطائفة السنيّة.

والإعلام المأجور عبر العالم بدون استثناء الموجّه من دوائر صهيو أمريكية مختصة مستخدماً الخبث الاصطناعي يجرّ الرأي العام إلى زواريب ضيّقة بأساليب شعبويّة مُبتَذَلة كان “جورج أورويل” قد تطرّق إليها قبل اثنين وثمانين عاماً بروايته الشهيرة “مزرعة الحيوان”.

تقسيم سوريا

هذا الإعلام وممارسات “الجولاني” اليومية لتبخير سورية الدولة والشعب وتهيئتها للتقسيم بين الطامعين الإقليميين تتقدمهم أنقرة وتل أبيب وبين الطامعين الدوليين الذين تتصدرهم واشنطن، ليعود السوري السابق إلى الاحتماء بهوية أخرى عرقية أو دينية أو ربما قبلية وعشائرية، ليسهل على كل دولة من الدول الطامعة بهذه “الكعكة” أن تستثمر هذا الرعب الشعبيّ الدهمائي الشامل فتستولي أنقرة على نفط وغاز بحر اللاذقية وطرطوس بذريعة حماية علوييه ومسيحييه و أرْمَنِه!، وتتوسع “إسرائيل” لتضمّ مخزون الماء وتأخذ السويداء وما تبقى من درعا والقنيطرة وريف دمشق بذريعة حماية الموحدين الدروز ومتطلبات أمنها القومي غير المحدودة، وتواصل واشنطن غرز شفاطاتها في شرايين الشمال السوري حتى آخر قطرة نفط بذريعة حماية الأكراد.

سوريا..فوضى خاصة بهم!

وهذه هي الترجمة الواقعية لمحاولة “ترامب” غسل يديه مُسْبَقاً من دم السوريين، عندما قال: “نحن لسنا متورطين في سوريا. سوريا هي فوضى خاصة بهم. لديهم ما يكفي من الفوضى هناك، لا يحتاجون أن نكون متورطين في كل شيء”.

من مظاهر هذا “الكسْب” كذلك، وبعيداً عن هذيان ثوّار المخابرات الغربية الذين دشنوا ثورات الفوضى الخلاقة التي أسلموا دفة القيادة فيها للإسلام السياسي، والذين يتراقصون فرحين بأنّ الإسلام “الجهادي” التكفيري أنجز ثورتهم، ولم يبق غير أن ينجز لهم نظامهم الديمقراطي المنشود، بعيدا عن هذا الهراء إنّ ما حصل ويحصل في سوريا، هو النسخة المنقحة من مؤامرة الربيع العربي التي سارعت إلى تنفيذ أهدافها في تغيير خارطة الشرق الأوسط تغييراً ديمغرافيا، عانت دمشق السابقة من التصدي له أربعة عشر عاما عجافاً.

تسخين في الكونغرس

ويبدو أنّ السيناتور الأمريكي “جو ويلسون” الذي رفعه العملاء من مزدوجيّ أو مُتعدديّ الجنسية على الأكتاف في قاعة الكونغرس في “عراضة شامية” مُطلقين عليه صفة “السوري الحر”، كونه أخذ مشعل العداء للدولة السورية من زميله الراحل “جون ماكين” أحد أبرز المتحمسين لمؤامرة الربيع العربي وما يسمى “الثورة السورية”، هذا الـ “جو ويلسون” يتقمص الآن دور “جون ماكين” أيضاً في التحريض على الدولة التونسية تسخيناً لما يُدَبّر لجارتها ليبيا مُجَدّداً.

الذي كسبتّه واشنطن أيضاً بإسقاط الدولة السورية في قبضة تنظيميّ “القاعدة” و “داعش” الإرهابيين أنها جَعلت الوجود الروسي على الأراضي السورية من خلال قاعدتي “حميميم” و”طرطوس” محاصرا بانتشار قواعد تركية وأمريكية وإسرائيلية جديدة على الأراضي “السورية”، فضلاً عن أنه سيبقى مُهدداً في ظلّ “حكومة” معادية لموسكو مهما حاولت الأخيرة تدوير الزوايا. وهذا الواقع الجديد الذي شجع “دونالد ترامب” على التفكير بالاستئثار بغاز غزة الواعد مُعلناً نيّة وضع اليد الأمريكية على القطاع الفلسطيني بأسره طالباً بصفاقة البلطجي الدولي غير المسبوقة، من أهل غزة الذين دفعوا مقابل صمودهم على ركام منازلهم وبين قبور شهدائهم عاما ونصف العام من الحرب التي لم تعرف البشرية ما يجاريها قسوة وضراوة ووحشية، أن يغادروا التراب المجبول بدماء الأبناء والآباء والأمهات الذين قارب عددهم المائة ألف شهيد إلى المنافي التي تستقبلهم، كي يستثمرها “دونالد ترامب” مُنتجعاً سياحيّاً يجلب إلى جانبِ غازِ بحرِها المزيد من المال إلى شركاته والأمن إلى الكيان الصهيوني.

“الباندي” العجوز

لقد توهّمَ كثيرون تصريح ترامب بأنّ “أمريكا أولاً” يقصد به تغيير السياسة الخارجية بالكف عن التدخُّل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، والانكفاء على بناء الداخل الأمريكي، لكنّ واقع الأمر أنّ “دونالد ترامب” يعني بذلك تحديدا أنّ “العولمة” تعني تحديداً “الأمركة”، أي أنّ مصالح واشنطن هي التي يجب أن تتقدم على مصلحة أية دولة أخرى ليس في الولايات المتحدة فقط بل في دول العالم كافة، وهذا الهدف إن لم يتحقق بالضغوط الاقتصادية والسياسية فسيُفْرَض بالضغوط العسكرية، فالهدف عند “ترامب” يُبرّر الوسيلة، وهذا “الباندي” العجوز آخر مَن قد ينضبط أخلاقياً عندما يتعلّق الأمر بالوصول إلى هدف اقتصادي أو سياسي أثار شهيّته، ولذا ليس بالضرورة أن يُغامر بإرسال الجيوش وإنفاق الأموال الطائلة، لأنّه من الطراز الذي يبحث عن أعلى المكاسب بأقلّ التكاليف.

فرص في شمال افريقيا

في هذا السياق لفتني الكاتب المختص بالشأن الأميركي والشرق الأوسط “ستيفن سيوني” بقوله “إن ترامب سيحدث تغييرا كبيرا في ملف ليبيا، لأنها دولة غنية بالنفط، وهو يريد تأمين عقود استخراج الخام للشركات الأميركية، ويمكنه أن يتعاون مع روسيا في هذا الملف، إضافة إلى ملفات أخرى خاصة بسورية ولبنان وفلسطين، وعقد صفقات في تلك الدول”، موضّحاً أنه «يمكن لبوتين وترامب إبرام صفقة تنهي التوتر الحاصل في شمال أفريقيا، وهناك فرص استثمارية كبيرة في عقود استخراج النفط وإعادة الإعمار»، مشيرا إلى “تعويل ترامب على اقتناص تلك الفرص من أجل ضخ الأموال إلى الاقتصاد الأميركي وتقويته”.

إذن من المُسْتبْعَد أن لا تكون ليبيا هدف “ترامب” المقبل بعد سوريا، وربما ليس بالطريقة نفسها التي أشار إليها “ستيفن سيوني”، بل بالطريقة التي قُطِفَ بها رأسُ الدولة السورية، أي باستخدام ميليشيات الولايات المتحدة الأمريكية التي تحركها عبر العالم تحت راية “الله أكبر”، أعني “القاعدة” و “داعش” وتفرعاتهما التي يعاد تدويرها (رسكلتها) كلما اقتضى الأمر الصهيو أمريكي ذلك، وأيضاً باستخدام جيوش دُوَل حلف الناتو التي يعتقد “ترامب ” أنها وُجِدَت في هذا الحلف للدفاع عن المصالح الأمريكية أوّلا حتى وهي ترفع رايات بلدانها، وقد حصل ذلك سابقا في حرب الناتو التي شُنّت على نظام القذافي بقيادة فرنسا، ولكن مَوسم حصادها استمرّ إلى الآن بالسلال الأمريكية. فلتحلّق طائرات وصواريخ الناتو عبر سماوات العالم كيفما شاءت لأنّ خراجَ ما تمطرُه من لهب على البشرية سيصب في الخزينة الأمريكية.

مواجهات قادمة

وإن كان “ترامب” لا يخفي عزمه على مواجهة تغوّل النفوذ الاقتصادي الصيني عبر العالم وخاصة في إفريقيا، فإنه يُضْمرُ التطيُّرَ نفسَه من الوجود الروسي الاقتصادي وربما السياسي والعسكري في إفريقيا وخاصة في ليبيا، ولأنه مِن المستبعد أن يدفع الأمور إلى مواجهة مباشرة مع الرئيس فلاديمير بوتين فمن المتوقّع بالتالي أن يدفع “أردوغان” إلى استنساخ التجربة السورية في ليبيا على الأقل باستخدام “المقاتلين الأجانب” في فصائل “هيئة تحرير الشام” المنحلة، كما يُفْتَرَض، وإن كنتُ أريد أن أتوقع مفاجآت من جوار ليبيا العربي أفضل من التي فاجأنا بها جوار سوريا العربي. وإلّا فإنّ الفراغ الذي تركته إيران وحزب الله والكتائب العراقية في سورية وملأته “تركيا” و”إسرائيل” اللتان هما الآن في حالة تنافس لا في حالة صراع، سيوازيه في ليبيا فراغٌ قد تُخلفه دُوَلٌ تختار عدم المواجهة خارج حدودها هي فتملأه تركيا و”إسرائيل” أيضاً، ولكن في الحالتين السورية والليبية ستهيمن المصالح الأمريكية هيمنة مطلقة على مصالح الشعبين الليبي والسوري المهدورة، فهل يستدرك الشعب الليبي ذلك، وهو الذي قد يغدو مصيرُ دولته مماثلاً لمصير الدولة السورية، أي على طريق التبخُّر لصالح إنشاء كيانات بديلة فاشلة، تدور جميعها في فلك “دولة إسرائيل اليهودية الكبرى”، في “الشرق الأوسط الجديد”.

ملاحظة أخيرة: إذا كان الصبر والتكيّف بذكاء من صفات الدب، فمن المعروف عن النمر الأمريكي أنه يأكل صغاره إذا جاع، ومهما نفخَ “أردوغان” في قوة تركيا ودورها، فإنها تبقى في أحسن أحوالها من صغار الحلف الأطلسي بالتبنّي مقارنة بدول الغرب الأوربي، أمّا الكيان الصهيوني أحد أعضاء جسد هذا النمر وما بينهما أقوى من التخادُم المُتبادَل، وعلى الباغي تدور الدوائر عاجلاً أم آجلاً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى