صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب/ مشروع الإصلاح الاجتماعي في فكر الشيخ الطاهر بن عاشور القيّم، الأهداف، المنهج والتحديات

slama
كتب: نوفل سلامة

هو كتاب للدكتور مصدق الجليدي صادر في طبعته الأولى عن دار سحنون للنشر والتوزيع سنة 2019 جعل له عنوانا رئيسيا ” المشروع الإصلاحي في فكر محمد الطاهر بن عاشور ” وآخر فرعيا ” “دور القيم والتربية في الإصلاح الاجتماعي من منظور مقاصدي عمراني ” عدد صفحاته 103 صفحة…

إشكالية الأخلاق

يحتوي على مقدمة كتبها الدكتور محمد الطيب العلاني وفصلين الأول تناول فيه الكاتب إشكالية الأخلاق كما ظهرت في الفكر الإنساني من خلال نماذج مختارة وفق الكاتب في اختيارها من الفكر الغربي والعربي نجد فيها باروخ سبينوزا وكتابه علم الاخلاق، ادغار موران وكتابه إيتيقا ( المنهج 6 ) ، محمد أركون و كتابه الإسلام والأخلاق السياسية ، محمد عابد الجابري وكتابه العقل الأخلاقي العربي، طه عبد الرحمان وكتابه سؤال الأخلاق مساهمة في نقد الحداثة الغربية، جواد ياسين وكتابه الدين والتدين وأخيرا يوسف عطية وكتابه الاجتهاد والتجديد في الفكر المقاصدي…

رحلة ممتعة

مثلت هذه العودة لهؤلاء المفكرين رحلة ممتعة في عالم الأخلاق أوضحت قيمتها في بناء الإنسان والمجتمع والحضارة وتجميعها معا حول محور واضح وتقديمها بأسلوب جميل مختصر وواضح ساعد على فهم إشكالية الاخلاق، وأكدت القناعة بأهميتها ومركزيتها فيما يحصل لنا اليوم من تراجع وأزمات متعددة يعيشها المجتمع وتعطل عملية إصلاح الأوضاع وحيرة في تلمس الطريق لاستعادة الحياة كما كانت نقية ناصعة.
والتعرض لها في فصل مستقبل له إضافة في فهم الفصل الثاني المتعلق بملامح المشروع الإصلاحي للشيخ الطاهر بن عاشور القائم على فكرة الأخلاق والتربية أساسا.
الفصل الثاني خصصه الدكتور مصدق الجليدي للحديث بتوسع عن المشروع الاجتماعي للشيخ وركائزه وملامحه وأهدافه منطلقا من سؤال مشروع ومهم وهو هل فعلا يوجد لدى الطاهر بن عاشور مشروع اصلاح لتطوير أوضاع الأمة الإسلامية وإخراجها من حالة العطالة الحضارية والتخلف والتراجع؟ وهل نجد فيما كتبه أنه صاحب نظرية إصلاحية تتجاوز إصلاح القطر التونسي نحو إصلاح العالم؟

خيط ناظم

الإضافة الكبيرة التي قدمها الكاتب أنه من خلال تخصصه في دراسة المنجز الفكري والعلمي للشيخ قد انتهى الى أن الطاهر بن عاشور لا يتحرك دون ضابط فكري ولا هاجس مجتمعي ولا تصور للعالم ولأوضاع عصره وخاصة حالة المسلمين حيث انتهى إلى نتيجة في غاية من الأهمية وهي أن هناك رابط متين وخيط ناظم ورؤية واضحة في كل ما كتبه الشيخ وانتجه من جهد معرفي فأهم كتبه الثلاث وهي أليس الصبح بقريب في المسألة التربوية والقيم والأخلاق و إصلاح التعليم وكتابه أصول النظام الاجتماعي في الإسلام في الإصلاح الاجتماعي والسياسي وكتابه مقاصد الشريعة الإسلامية في الجانب التشريعي و التجديدي والاجتهادي يجمعها رابط وتناسق وتكامل وقراءتها مجتمعة تنتهي إلى أنها تصب ضمن مشروع كبير يشغل بال الشيخ للنهوض بالأمة الإسلامية فمن المستبعد حسب الدكتور الجليدي أن يكون قد ألفها دونما وجود مشروع فكري واحد ناظم لمجموع أثاره الفكرية الإصلاحية خطوطه العريضة مشروع فكري تنويري تحرري شامل من مدخل الأخلاق والدين والمقاصد الشرعية.

لا حضارة دون قيّم

هذا المشروع الإصلاحي الشامل الذي يعرضه الشيخ بمضمون اجتماعي وسياسي مع إصلاح ديني وتربوي وضع له مدخلا أساسيا وهو بناء القيم الفردية والروحية والأخلاقية والمعرفية ينطلق من بناء القيم الاجتماعية في شموليتها النابعة من الفطرة الملائمة لها ولـ طبائع العمران البشري وما تقرر من قيم إنسانية عالمية لنصل في الأخير إلى تركيز قيم الدولة الديمقراطية من منظور مقاصدي عمراني، وبذلك يكون الشيخ قد تفطن مبكرا إلى ضرورة القيام بإصلاح شامل يعيد الامة إلى السياق الحضاري ودورها في العالم ويعيدها إلى التاريخ بعد أن تخلفت عنه…

الإصلاح المنشود

لقد تفطن إلى أن الإصلاح المنشود الذي يحتاجه المسلمون يقوم على عناصر ضرورية عنصر الاخلاق والأبعاد الروحية ركنان أساسيان فيه وهو بذلك يقر حقيقة يتم العودة إليها في فكر ما بعد الحداثة وهي أنه لا يمكن ان نتجاهل دور الدين والقيم والأخلاق ولا يمكن أن نبني حضارة وأمة متقدمة من دون قيم روحية أخلاقية.
هذا البناء الروحي والأخلاقي والمعرفي والاجتماعي والسياسي والحضاري الذي يقترحه يضع له الشيخ بن عاشور في مشروعه ضربين من السياسة الأولى سماها سياسة الصبيان والثانية سياسة الجمهور، وبذلك يكون قد وضع شرطين لتحقيق المشروع الإصلاحي وهما توفر شرط التربية لإعداد العقول المنتجة لاحقا لشتى احتياجات المجتمع والثاني المتعلق بنظام الحكم فيشترط توفر الظروف المادية وتوفير مقومات تحقيق تلك الشروط مثل الخطط والبرامج والتشريعات المناسبة وتكوين القدرات وتأهيل الأفراد مستلهمة من أحكام الشريعة الإسلامية ومقاصدها وفي مقدمتها جلب المصالح ودرء المفاسد وحفظ النظام واستدامة صلاحه بصلاح الانسان.

سيادة مكارم الأخلاق

مشروع يقوم على بناء الفرد وتربيته وجعل الاهتمام بالأخلاق والاعتناء بالقيم والمعايير ركنا جوهريا في المجتمع والدولة، مشروع يقوم على التربية والتعليم والأخلاق ونظام سياسي واجتماعي يرتكز على نظام أخلاقي يقوم على نظام تربوي متين. منظومة حلقاتها مترابطة البعد التربوي فيها بعد محوري ودونه لا يقوم أي نظام ولا إصلاح.
هذه الفلسفة الإصلاحية مبناها فهم مقاصدي لقواعد الدين وقواعد العمران البشري وعلى تربية الأفراد تربية فضلى تكون هي الأساس في تكوين العقول وتهذيب النفوس وعلى قاعدة إن إصلاح المجتمع من دون نظام أخلاقي قيمي هو إصلاح مآله الفشل فما يقترحه الطاهر بن عاشور، ويعرضه لتطوير المجتمع في عملية الإصلاح هو أن تتحول تعاليم الدين بفعل الممارسة والاستدامة عليها أخلاقا راسخة لطائفة من الناس تعتنق ذلك الدين حيث تفطن الشيخ إلى الدور الكبير الذي تلعبه الأخلاق والقيم في صلاح الأفراد والمجتمع والدولة فهو يعتبر أن سيادة مكارم الأخلاق عند جمهور الأمة شرط أساسي لانتظام المعاش واستتباب الأمن والانصراف إلى الأعمال النافعة التي تحقق الطمأنينة والرفاهية للأفراد.
يعتبر الطاهر بن عاشور أن الحكم الصالح لا يقوم على الاكثار من القوانين المانعة وإنما بتربية الناس على الأخلاق وعلى احترام الواجب والوازع الأخلاقي. يقول ” إن التجاء الحكام عند فقدان الوازع الأخلاقي إلى الإكثار من انفاذ الزواجر والتعازير يورث في نفوسهم كراهية الحكام وتمتلئ السجون بالمردة وتصرف آراء القادة عن جلب المصالح بما يضيع من أوقاتهم في درء المفاسد وربما كانت عاقبة ذلك ثورات داخلية.”

كيف نبني حضارة؟

في الكتاب حديث مهم عن فكرة التقدم والتأخر وكيف نبني حضارة وكيف تصلح المجتمع بأدوات الحاضر من دون الاستغناء عن الموروث الثقافي واجتهادات القدامى ونظرة مختلفة للشيخ الطاهر بن عاشور عن دور الدين في إحداث التغيير وكيف يتحول الدين إلى حالة وعامل أو عنصر محرك ومؤثر في عملية الإحياء أو النهوض الحضاري التي نرنو إليها.
في الكتاب حديث مستفيض عن آلية المقاصد هذه النظرية التي طورت التشريع الإسلامي وجعلته مواكبا لكل مستجد ومستحدث وخرجت به عن القوالب الفقهية التي حكمت العقلي الفقهي الإسلامي لقرون وحققت الارتقاء والنمو الذهني للعقل التشريعي ما جعلته حسب دكتور الجليدي يقترب من مرحلة الرشد.

الحرية أو المقصد السادس

وحديث واسع عن الجهد الذي بذله الشيخ بن عاشور في تطورها وتوسيعها بأن زاد على المقاصد الخمس المعروفة مقصدا سادسا هو الحرية في كتابه أصول النظام الاجتماعي في الإسلام إضافة الشيخ في هذا الباب هو اعتباره أن المرجع الحقيقي لفكرة المقاصد ليس النص الديني في حد ذاته وإنما امران أساسيان يقعان خارج النص وهما الحس السليم أي الادراك بأن العدل نافع والتجربة التي مورست فصحت أي أن العقل والواقع هما اللذان يشهدان بوجود المصلحة والمفسدة وهو نظر حسب رأيه يحل مشكل تناهي النصوص وعدم تناهي القضايا و المشكلات وحلها يكون بالعودة إلى الحس السليم وخلاصات العقل التطبيقي أي ما تفيدنا به علوم الاجتماع والإنسانية هذا الحل يمثل قفزة نوعية في علم أصول الفقه بل لعله يبلغ درجة القطيعة الابستمولوجية معه.
كتاب المشروع الإصلاحي في فكر محمد الطاهر بن عاشور هو تجاوز النظرة النمطية عن الشيخ باعتباره فقيها مالكيا وأحد أعلام الجامع الأعظم وخرج به عن النظرة التجزيئية لأعماله الإصلاحية التي لم نكن لندركها لولا هذا التوليف الذي قام به الدكتور الجليدي جعلتنا نكتشف بن عاشور آخر مختلفا ، بن عاشور المفكر صاحب المشروع الفكري المتكامل بأبعاده التنويرية المستلهمة من الاخلاق والدين والمقاصد الشرعية وفق نظرة اجتهادية متجددة تضمن صلاح الفرد والمجتمع والدولة وتحقق المناعة والتفوق والريادة للمسلمين تعيدهما إلى التاريخ وإلى السباق الحضاري في عالم لا بقاء فيه إلا للأقوى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى