نوفل سلامة يكتب/ احتفاء بألفية وفاة الشيخ محرز بن خلف أو ‘سيدي محرز’: أسئلة المتخيل وقلق الحقيقة
كتب: نوفل سلامة
احتفاء بمرور ألف سنة على وفاة الشيخ المؤدب المعلم محرز بن خلف ( 951 م / 1022 م ) نظمت دار الكتب الوطنية التي تترأسها الأستاذة الجامعية الدكتورة رجاء بن سلامة ندوة فكرية صبيحة يوم السبت 28 جانفي الجاري تحت عنوان ” محرز بن خلف في عصره وعصرنا ” خصصت للحديث عن مناقب هذا العلم الذي ملأ الدنيا في زمانه وشغل الناس ولا يزال…
استدعت لها ثلة من الأساتذة المختصين في التراث والتاريخ والفكر كان من بينهم الدكتور عبد العزيز الدولاتلي رئيس جمعية معالم ومواقع، والكاتب الأستاذ أحمد الحمروني والشيخ إلياس المحرزي أحد أحفاد الشيخ محرز بن خلف والمؤرخ الأستاذ فوزي محفوظ مدير معهد التراث سابقا والدكتور محمد بوزغيبة الأستاذ الجامعي ورئيس هيئة فقهاء تونس وتولى التقديم وإدارة الحوار الأستاذ عيسى البكوش الذي له هو الآخر اهتمام بحياة محرز بن خلف…
ندوة لم تكن عادية…
هذه الندوة العلمية لم تكن ندوة عادية ولا شبيهة بكل الندوات السابقة التي أقيمت في السابق للحديث عن مناقب الرجل وإبراز خصاله كما لم تكن وفية للخط القديم الذي التزم التمجيد وتثبيت السردية الرسمية التي وظفت الرجل وجعلت منه رمز الاعتدال والوسطية والتسامح في توظيف سياسي تعمد البعض تأكيده، وإنما كانت ندوة مختلفة وفارقة ولعلها دون مبالغة قد مثلت منعرجا فكريا في علاقة بكل المقولات التي لصقت بالرجل وتصادمت ما هو متعارف من معطيات ومعلومات أرادت الندوة أن تسائلها وتعيد النظر فيها من أجل قراءة جديدة ممكنة ومشروعة ومن أجل إعادة تشكيل وعي جديد بحقيقة هذه الشخصية التي اختلط فيها الخيال بالواقع والأسطورة بالحقيقة…
السؤال والشك
فمضمون هذه الندوة والمداخلات التي قدمت والنقاش الذي دار يصب كله حول السؤال والشك والحيرة والقلق المعرفي والتوقف عند الكثير من الأمور والمسائل التاريخية التي نسبت للشيخ وتحتاج اليوم أن توضع على محك البحث والحقيقة التاريخية لتنقية صورة الرجل من كل المتخيل الشعبي الذي أصبح جزءا من المادة التاريخية وما نسبته العامة له، وتبنته الطبقة المثقفة ورددته دون تمحيص ولا تحقيق…
حملة إبادة؟
من القضايا الكبرى التي تم تداولها في هذه الندوة وعُرف بها الشيخ و حام حولها جدل كبير نذكر منها قضية تشدده مع الشيعة وتسامحه مع اليهود، وهل فعلا كان محرز بن خلف متشددا مع المنتسبين لأهل البيت في زمانه حيث تقول السردية المتعارف عليها أنه قاد حملة إبادة واستباح دماءهم زمن الدولة الفاطمية في تونس…
ويذكر أصحاب هذه الرواية أن سنة 406 هـ كانت سنة الدماء والتقتيل وقد انتهت حملته على الشيعة بأن تم طردهم من تونس وتهجيرهم إلى مصر، وفي المقابل فقد كان متسامحا مع اليهود الذين سمح لهم بالانتقال من منطقة الملاسين المكان الذي كانوا يقطنون به وأدخلهم إلى مدينة تونس ومكنهم من منازل ودكاكين أهل الشيعة المطرودين وأسكنهم في جهة الحفصية، وهذه الحركة اعتبرت تصرفا نبيلا وصورة من صور التسامح مع أتباع الديانات الأخرى وسلوكا فيه دعوى للاعتدال والتعايش والوسطية…
سؤال يطرح نفسه
وقد كان السؤال الذي فرض نفسه هو : كيف يمكن لشخص بقيمة محرز بن خلف وهو الشيخ العارف بالله والمتدين أن يكون في نفس الوقت متشددا محبا للدماء وفي نفس الوقت متسامحا ليّن الجانب؟
وهل فعلا ما حصل في تلك الفترة من التاريخ كان وراءه الشيخ وبتحريض منه وبمباركته أم أن الأحداث التي حصلت تحتاج إلى إعادة قراءة تاريخية؟
وهل فعلا كانت عملية دخول اليهود إلى مدينة تونس بعد أن كانوا ممنوعين من البقاء فيها بعد أن تغلق أسوارها عند المغرب من قبيل التسامح الديني أم أن للمسألة وجها آخر له علاقة بالجانب الاقتصادي والفراغ التجاري والمالي الذي تركه الشيعة، وكان لا بد من ملئه وتعويضه بعناصر آخرى فكانت العملية من هذه الزاوية تدبيرا اقتصاديا وتصرفا تجاريا لا غير، ينم على أن الرجل كان مستوعبا للتحديات والمآلات التي شهدتها الدولة بعد خروج الشيعة…
مؤمن تقي…
القضية الثانية التي تم التعرض إليها في هذا اللقاء العلمي مسألة تصوّف الرجل وطرح السؤال هل فعلا كان محرز بن خلف متصوفا على الصورة التي عرفنا بها التصوف كما ظهر ونشأ؟ وهل عُرف عن الرجل في حياته خلوات للعبادة وانقطاع عن الناس واختلاء بنفسه كما تفعل الصوفية أم أن الرجل في الحقيقة كان شخصا متدينا عارفا بالشريعة وملّما بأحكام الدين اشتغل بتعليم الصبيان لذلك لقب بالمعلم أو المؤدب وبالتالي فإن محرز بن خلف كان شخصا مسلما مؤمنا تقيا وهي الصورة العادية لمسلمي ذلك الزمان ما يبعد عنه كل من نسب له من كونه كان وليا صالحا وكانت له كرامات وكان الناس يتبركون به…
تضارب تاريخي
ويزداد السؤال حيرة وقلقا حينما ينقل البعض عنه أنه كان يحمي المومسات ومن ليس لها بيت يأويها ويدخلها إلى مقام زاويته ويبقيها هناك حتى تتزوج، وبذلك يكون قد نشلها من الحاجة واستغلال الناس والمشكل في هذا النوع من الحديث عن الشيخ في تعارضه مع الحقيقة التاريخية التي تقول بأن مصطلح “ الزاوية ” لم يظهر في تاريخ العمارة الإسلامية في تونس إلا في حدود القرن الثالث عشر ميلادي في زمن الدولة الحفصية التي عرفت انتشارا واسعا للزوايا، وازدهرت حينها حركة واسعة من التصوف والزهاد الذين لعبوا أدوارا اجتماعية واضحة…
في حين أن الفترة التي عاش فيها محرز بن خلف فم تكن فترة قد ظهر فيها التصوف الطرقي بعد ولم تعرف بناء الزوايا ومقامات الأولياء بما يجعل من كل الحديث عن كرامة الرجل وأنه كان وليا صالحا وكانت له زاوية يختلي فيها إلى نفسه وإلى ربه للتبتل والعبادة هو من صنيعة العامة ونتاج المتخيل الشعبي الذي أرجع الشيخ وليا صالحا وصنع له صورة غير حقيقية والحال أن القراءة الموضوعية التي تتفق مع التاريخ تذهب إلى أن محرز بن خلف كان شخصية عامة متدينة أثرت في زمانها كما أثر غيرها من الرموز الإسلامية وتعاملت مع واقعها والظروف التي عاشت فيها بما هو متاح وممكن وبما فرضته اللحظة التاريخية وبما تمليه النصوص الدينية في مثل هذه الأحداث من التدخل واتخاذ القرار.
القضية الأخرى التي أخذت حيزا من الجدل ما ينسب إليه من كونه كان شاعرا يقرض الشعر ويكتبه حيث تنسب إليه أبيات شعرية كثيرة عدها بعضهم بـ 413 بيت شعر في مختلف الصنوف والشواغل وفيها تأملات في النفس والحياة والإنسان وهي أشعار جاء الكثير منها حديث عما أصاب مدينة قرطاجنة من دمار وخراب وفيها كثير من المعطيات والمعلومات التاريخية عن تلك الحقيبة بخصوص هذه القضية حيث قدم المؤرخ فوزي محفوظ عرضا مفصلا عن الأشعار التي نسبت إلى محرز بن خلف وانتهى إلى أن هناك شكوك كثيرة حول هذا الشعر وحول قائله ونسبته إلى محرز بن خلف وحول جودة هذا الشعر وحول سؤال هل فعلا كان الرجل شاعرا؟
حيث اعتبر أن في هذه المسألة نظر من الناحية العلمية وتحتاج إلى بحوث حتى نتأكد من صحة نسبة هذا الشعر إليه على اعتبار أنه كان يحفظ الكثير من الأشعار وكان يستشهد بها في دروسه وحديثه وهذا لا يكفي للقول بأنه كان ينظم الشعر….
أشعار مجهولة
المشكل في هذه القضية أن كل الأبيات الشعرية التي تنسب للشيخ لا نجد من المحققين من أرجعها إلى أصحابها ولا نجد من أسند هذه الاشعار إلى قائليها فهي إذن أشعار مجهولة مما يرجح الرأي عند البعض أنها من نظم الشيخ محرز بن خلف وصناعته لكن الثابت أنه ليس لدينا أي دليل علمي على صحة نسبة هذه الأشعار للشيخ.
المسألة الأخيرة التي أثيرت في هذه الندوة هي صحة نسبه إلى المدينة المنورة وتحديدا إلى الخليفة أبو بكر الصديق حيث تم استعراض السلسلة النسبية المتعارف عليها والتي ترجعه إلى الجد الأول صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي الرواية التي ترجع عائلة المحرزي إلى الجزيرة العربية . حول هذه المسألة دار نقاش وقدمت رواية أخرى تثبت أن نسبة الشيخ محرز بن خلف تعود إلى عائلة الصديق التي تسكن في اليمن لا تلك التي تقطن المدينة المنورة وهذا يعني أن محرز بن خلف يعود أصله إلى عرب اليمن ولا إلى عرب الجزيرة العربية وفي هذه المسألة دراسات كتبت وشهادات قدمت أثبتت أن نسب الشيخ محرز بن خلف يعود إلى أرض اليمن لا إلى مكة وهذه قضية أخرى تحتاج إلى مراجعة تاريخية.
المفيد في الندوة
ما هو مفيد في هذه الندوة وما أثارته من إشكاليات وقلق معرفي حول حقيقة شخصية محرز بن خلف وكل الحيرة التي حركت السواكن وكل ما هو متعارف عنه ومتداول بخصوص سيرة هذا العلم من أعلام تونس أننا أمام إشكال تاريخي كبير وأمام إشكالية المصادر والمراجع القديمة التي أرخت للفترة الزيرية وتناولت حقبة الدولة الصنهاجية ونشوء الدولة الفاطمية والتي تحتاج إلى إعادة نظر ومحاورة جديدة وقراءة متجددة حتى نتبين الحقيقة أو ما ينسب للحقيقة من ذلك أننا لا نجد فيما كتبه العلامة بن خلدون عند تعرضه إلى أحداث القرن الخامس هـجري وعند حديثه عن الدولة الصنهاجية ما يروج من أن محرز بن خلف كان متشددا مع الشيعة متسامحا مع اليهود و أنه قد قتل الشيعة ونكل بهم كما لا نجد فيما كتبه ابن عذاري المراكشي في كتابه ” البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب ” وقد أرخ هو الآخر لمرحلة الدولة الفاطمية ما يروج في علاقته بالشيعة…
ليس كل شيء
ما هو مفيد في هذه الندوة المنعرج في الحديث عن الشيخ محرز بن خلف أننا لم نستوف الحديث عن هذه الشخصية وأننا لم نقل كل شيء عن حياته وأن مناطق كثيرة لا تزال غامضة في سيرته وأننا نحتاج إلى قراءة جديدة ممكنة للتاريخ حتى نتبين الأسطورة من الحقيقة والخيط الفاصل بين الخيال من الواقع في صورة الرجل الذي صورته العامة على غير ما هو عليه وجعلت من سرديته مادة للمؤرخين والكتاب لتقديم شخصية الكثير من جوانبها متخيلة فيها طغيان لهوى العامة على الحقيقة التاريخية في الوقت الذي نحتاج فيه إلى وعي حقيقي ومعرفة صحيحة متصالحة مع التاريخ ورموزه وما حصل حقيقة.