صالون الصريح

عيسى البكوش يكتب: المنصف باي (1881-1948) الملك الشهيد في ذكرى رحيله..

ISSA BACCOUCH
كتب: عيسى البكوش

من منّا لا يعرف المنصف باي “السوق”؟ جميعنا أو أغلبنا، الرجل الذي يمر في مثل هذا الشهر من سنة 1948 رحيله عنا؟ ثلة من الأولين وقليل من الآخرين…

هو المنصف الباي الثامن عشر في سلسلة البايات الحسينيين نسبة لمؤسس العرش في عام 1705 الحسين بن علي (1670-1740) ولكنه الباي الوحيد الذي التحم مع إرادة الشعب في التخلص من نير الاستعمار الذي أذعن له في ذلك اليوم المشؤوم من شهر ماي من سنة 1881 سلفه محمد الصادق باي (1814-1882).

البدايات وتولي الحكم

ولد المنصف ابن الناصر باي (1855-1922) يوم الجمعة 02 ربيع الثاني سنة 1298 الموافق للرابع من شهر مارس سنة 1881 أي أسابيع قبل إمضاء معاهدة باردو مما امتاز به عمن سواه من أبناء العائلة الملكية هو انضمامه للصادقية، فلا غرابة أن يصبح ما أصبح عليه عند ارتقائه لسدة الحكم وهذه المدرسة بحسب العبارة التي أوردها المنعم نور الدين سريب في أطروحة عن الأثر الخالد للجنرال خير الدين “معمل للمتفجرات” بالنظر إلى تجاوب التلاميذ الصادقيين مع لقاح الوطنية.
بقي وفيا لحاضنته إذ أنه افتتح وهو ملك البلاد السنة الدراسية في هذا المعهد وذلك يوم 14 أكتوبر 1942.
اثر وفاة البشير باي محال أحمد باي الثاني يوم 30 أفريل 1942 ارتقى المنصف باي (1862-1942) إلى رتبة خليفة الباي وبالفعل لم تمر ثلاثة أشهر حتى جلس على كرسي أسلافه وذلك يوم 19 جوان 1942 وبنفس السرعة تقريبا وقع خلعه منه في السنة الموالية. لماذا؟
لأن الرجل اختار المواجهة مع الدولة “الحامية” ولأنه لا يُشبه كثيرا النمط المعتاد من الحكام الرابضين في برجهم العالي.
فأول ما بادر به في هذا المجال هو القطع مع تقبيل اليد في إشارة إلى انه واحد من الشعب ولم يتوان بعضهم في نعته بـ ‘باي الشعب’ ولو أن هاته العبارة قد أطلقت على علي بن غذاهم إبان انتفاضته ضد الصادق باي.

متعاطف مع الحركة الوطنية

فقد اختلط بالشعب منذ شبابه وكان يفتح قصره بالمرسى في وجه الوطنيين إذ كان متعاطفا مع الحركة الوطنية منذ انبعاث الحزب الدستوري عام 1920 وقد أقنع والده محمد الناصر بالتنازل عن العرش يوم 05 أفريل 1922 إذا لم تستجب الحكومة الفرنسية للمطالب الوطنية ومن وقتها تمكن المنصف باي من قلوب التونسيين،
وفي محنة 09 أفريل كان قريبا منهم وقد سعى للإفراج عن الموقوفين إثر هذه المواجهة الدموية مع القوى الغاشمة، كما ساند نشاط الحزب الدستوري الجديد بقيادة الحبيب ثامر في غياب الزعيم الحبيب بورقيبة.
دافع عن رعاياه من أبناء قوم موسى ولقد بادر خلال اعتلائه العرش بدعوة المحامي ألبار بسيس للجلوس إلى جانبه.

ألهب الجماهير

لقد تعددت زيارته للجهات من ذلك ما قام في ضواحي العاصمة رادس -15 أوت 1962 – أريانة 25 أوت 1942 – حلق الوادي 03 سبتمبر 1942 ومنوبة يوم 04 سبتمبر 1942 حيث ألهب الجماهير الحاضرة عندما أقسم أمام الملأ على الكتاب المقدس.
كما كان دائم الحضور في المنابر التي تلقى عليها محاضرات من أهل الذكر إلى جانب تردده على زوايا الأولياء الصالحين أحمد بن عروس ومحرز بن خلف وابراهيم الرياحي وذلك ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان إثر مغادرته لجامع الزيتونة.
لقد عبر منذ البدء عن امتعاضه من غطرسة ممثلي فرنسا وخاصة المقيم العام الأميرال Esteva ولم ينفك عن مكافحتهم في كل اللقاءات التي جمعتهما إلى أن بلغ الصدام ذروته يوم 12 أكتوبر 1942 عند الاحتفال بعيد الفطر إذ أن الملك عاتب المقيم العام بعدم وجود تونسيين في الوزارات الفنية، في اليوم الموالي طلب الباي من الحكومة الفرنسية برئاسة المارشال Petain باسترجاع المقيم ومن قبل ذلك كان قد توجه له يوم 08 أوت 1942 بمذكرة تحتوي على ستة عشر مطلب من ضمنها تونسة الإدارة وإحداث مجلس تشريعي. لقد حرص الباي على فرض السلطة الوطنية عندما توجه للقياد والخلفاوات يوم 08 سبتمبر 1942 بأن لا يأتمروا إلا بأوامره وجدد لهم الطلب يوم 07 أكتوبر 1942 قائلا : “انتم نوابي في الجهات يجب أن تكونوا متحلين بالنزاهة والنأي عن الارتشاء وخدمة الشأن العام”.

موقف محايد

يوم 10 نوفمبر 1942 لما نزلت القوات الألمانية بتونس اتخذ الملك موقفا محايدا تجاه المحاربين في الحرب العالمية الثانية أي قوات المحور بقيادة ألمانيا وقوات الحلف بقيادة أمريكا.
ولعله استغل الظرفية لاتخاذ اجراءات أكثر وجعا على المحتل من ذلك إلغاء الأمر المؤرخ في 30 أفريل 1896 والقاضي بتمكين المعمرين الفرنسيين من الاستحواذ على أراضي الحبس والإذن بتحقيق المساواة بين الموظفين الفرنسيين والتونسيين بتمكين أهل البلد من التمتع بمنحة الثلث التي كانت حكرا على الأولين.
فمن الطبيعي أن تثير كل هذه الإجراءات – أضف لها تأليف وزارة جديدة يوم غرة جانفي 1943 برئاسة الوطني محمد شنيق – غضب المغتصبين فما إن حلت قوات الحلف حتى طلب منه يوم 13 ماي 1943 التنازل عن العرش لفائدة ولي عهده محمد لامين فلما رفض تم خلعه بمرسوم صدر يوم الجمعة 14 ماي 1943 عن الجنرال Giroux.
وهذا هو نصه كما أورده المنعّم الصادق الزمرلي مدير مراسم الباي في كتابه “تونس في عهد المنصف الباي” :” إن الجنرال جيرو القائد المدني والعسكري بعد أن درس على عين المكان بروح النزاهة الناتجة عن تحرير البلاد التونسية رأى في الظروف الحالية أن وجود سمو سيدي المنصف باي جالسا على عرش البلاد أثناء احتلال البلاد التونسية من طرف قوات المحور من شأنه أن يضر بالأمن الخارجي والداخلي للبلاد التونسية الذي تعهدت فرنسا الحكومة الحامية بضمانه ولذلك قررنا خلع سموه وتنصيب ولي العهد سيدي الأمين باي خلفا عنه حسب تقاليد العائلة الحسينية”.

نفي المنصف باي

نُفي المنصف باي إلى الأغواط في الجزائر ثم مدينة تنس قبل أن يُنقل بعد سنتين أكتوبر 1945 إلى مدينة Pau في فرنسا بعد أن رضخ تحت التعذيب لطلب التنازل عن العرش.
ولقد أثار هذا التنكيل من طرف المستعمر مثلما كان متوقعا سخط الشعب التونسي وغضب سكان بلاد شمال إفريقيا والعالم الإسلامي، لقد كان في تلك المدينة يستقبل في مقر إقامته ببرج Cadavel عددا كبيرا من الزوّار القادمين إليه من كل جهة وكان من أبرز الذين يترددون عليه المُنعم أحمد بن صالح.
ولقد أصبح يعلق في أذهان كثير من الناس الذين كانوا يتباهون بوضع صوره في المنازل والنوادي وكأنه صار أيقونة يتبرّك بها أوفياؤه الخُلّص.
ولقد ظهرت بوادر لـ ‘حركة منصفية’ ولكنها لم تعمر وقد نسبت لبعضهم فكرة تهريب “السجين” نحو الشرق في انتظار أيام سعيدة ومما غذى هذا الحراك هو ما كان يصرح به المنصف باي من أنه من أنصار الملكية الدستورية، وثمّة من يدعي أنه كان يعد بإعلان الجمهورية.
كل هذا طواه التاريخ فالرجل لفظ أنفاسه يوم الأربعاء غرة سبتمبر 1948 وهنا يتساءل المنعم المختار باي مؤلف الكتاب المرجع – بايات تونس – الصادر عن دار “Serviced” سنة 2002 هل وقع تسميمه… ص59.

جنازة مهيبة

عاد جثمانه إلى تونس ودفن يوم الأحد 05 سبتمبر 1948 في تربة الباي مثل أسلافه بل حذو الولي الصالح أبي الحسن الشاذلي بمقبرة الجلاز إثر جنازة مهيبة قلّما شهد القرن الماضي مثيلا لها ولقد قادها الزعيم الخالد فرحات حشاد وحضرها نيابة عن الحزب الزعيم الباهي الأدغم في غياب رئيسه الحبيب بورقيبة وأمينه العام صالح بن يوسف الموجودين بالقاهرة.
ولقد وصف سي الباهي في مذكراته الصادرة عن دار Nirvana عام 2019 هذا المشهد: “كان موكب التشييع عظيما مرورا بالشوارع الرئيسية وانطلق الموكب نحو الطريق المسماة شارع المنصف باي حاليا بين عشرات الآلاف من المواطنين تحت الهتاف وترتيل القرآن والدموع”. ص243 .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى